فى التاسعة صباح كل يوم يبدأ العمل فى مكتب الشهر العقارى بشارع خيرت. المكتب عبارة عن شقة ضيقة من أربع حجرات، فى سقف كل حجرة مروحة تحرك الضجر، وتحت كل مروحة أربعة مكاتب قصيرة، منكمشة، يجلس إليها الموظفون كأنما يعفقونها بين سيقانهم. وما إن يفتح باب المكتب حتى يندفع جيش من المواطنين يتواثبون بأوراقهم بين المكاتب يطقطقون وينحنون ويعتدلون أمام الموظفين، مثل فشار ملسوع فى طاسة، صارخين، هامسين، متوددين، متوعدين. قسم غير قليل من العمل ينتهى عند مكتب سيد أبوطالب المختص بوضع الأختام فى الحجرة الأولى على يدك اليمنى ما أن تدخل الشقة . أمام سيد أبوطالب الجالس تحت النافذة الوحيدة بالحجرة وقف - بعد هرس ودوس- مقاول بدين بجلباب، دفع بأوراقه قائلا بصوت أجش «توكيل قضايا يا أستاذ سيد ربنا يكرمك». نهض أبوطالب وأعطى المقاول ظهره كأنما لم يسمعه ولم يره من الأساس، ثم فتح النافذة بهدوء على منور العمارة، وانقبض أنفه فى الهواء، ثم أغلق النافذة، واستدار ممتعضا يقول بنبرة تقريرية «زبالة»، كأنما كان فى بعثة علمية وعاد منها بنتيجة محددة. وجلس المقاول الذى لم يكن يعنيه غير إنهاء أوراقه علق بعبارة تصلح لكل حادث وحديث «ربك كريم». وردًا على العموميات رفع أبوطالب رأسه الأصلع وقال فى العموميات «تفتح شباك تهب عليك رائحة زبالة! تأكل سندوتش يمرضك! تمشى فى حالك يضربك ميكروباص أو تقع على رأسك عمارة ! والقرش يأتى بخلع الضرس، وإذا جاء لا يكفى . هذه بلدنا فى الأغانى بس . مصر التى فى خاطرى». ولم تفت عبارة «القرش يأتى بخلع الضرس» على المقاول الذى تمرغ مع الفواعلية وتعطر مع المهندسين الأثرياء، فأخرج فى لمح البصر ورقة بعشرة جنيهات وزحلقها بنعومة تحت استمارة التوكيل. أبوطالب لمح الورقة بعين الصقر فقال بوجه بومة مشمئنطة: «أنا مثلا من عائلة أبوطالب، كان منها عضو مجلس الشعب، ود. حسين طبيب العيون المشهور الذى ظهر فى التليفزيون، وأساتذة فى كل مجال، لكن ها أنا.. (ورفع منكبيه لأعلى ومط شفته إشارة إلى أن كلمة القدر هى الأعلى) هذا الله وهذه حكمته. ولو كنت فى سن الشباب لهاجرت إلى أى بلد آخر. ولاحظ المقاول أنه لم يومئ للعشرة جنيهات فقال على الفور: عائلة أبوطالب كلهم ناس أفاضل. توكيل قضائى يا سيد بك. فى هذه اللحظة انشقت الأرض عن فتاة ملفوفة، أنيقة، بيضاء كالحليب، أفسح لها المقاول الذى يعرف تأثير الجمال مكانًا بهدوء، ووقفت أمام المكتب فكأنما ارتفع فى الجو عمود من النور العطر، وقالت له بلكنة أجنبية رقيقة «من فضلك توكيل قيادة سيارة»، ودبت حيوية مفاجئة فى عينى أبوطالب ومط رقبته مثل ديك البرارى يصيح بصوت فصيح «تحت أمرك، طبعا» . سألها عن الاسم فقالت: «مرجريت هانى». استفسر «مصرية؟ »، أجابت بلطف: « نعم. بابا مصرى، ماما إنجليزية». شبع أبوطالب صوته بالإعجاب قائلا :« لكنك ماشاء الله تتكلمين المصرية تمام؟»، قالت: «أنا فى مصر منذ عشر سنوات». عاد برقبته للخلف قائلا: «سيد أبوطالب، من عائلة أبوطالب،منها أساتذة ومحامون» وابتسم متوددا «أعجبتك مصر؟»، أجابته بإنحناءة رأس: «أحسن ناس». ترك القلم من بين أصابعه وقال بصوت رنان: «بلدنا بلد عظيمة ومادام والدك مصريا فلابد أن تحبى مصر؟ مضبوط؟» . ابتسمت بعذوبة: «إن شاء الله». عاد يملأ الخانات فى استمارة التوكيل وهو يقول: « مصر تاريخ وحضارة. شفت الأهرامات والقلعة؟ شفت الناس عندنا كيف يتعاملون بطيبة مع الكل؟ نخدم الجميع بعيوننا. بلدنا يامرجريت أم الدنيا». وهوى بالختم على الاستمارة بخبطة قوية، كأنما يطرد بذلك هاجسا فى نفسه . ناولها التوكيل ثم سألها : «تحبين مصر طبعا؟». قالت وهى تبتعد «إن شاء الله » . استرق النظر إلى العشرة جنيهات، واستوقفها يقول لها وشيء يعتصره من الداخل: « تحبينها صدقا؟». قالت ضاحكة: «طبعا بلدنا»، تشبعت نظرته بالشك والرجاء يسألها: «على أى شيء نحبها؟ قولى لى؟»، ثم سرح بنظرته قال متنهدا: «بلدنا مهما كان». واعتدل مؤكدا: «صدقينى جميلة.. جميلة»!