لم تكد تمر أيام قلائل على نشر الجزء الأول من المقال خلال الأسبوع المنصرم حتى أصبحت نذر الحرب الإقليمية الشرق أوسطية التي تحدثنا عنها أقرب ما تكون إلى الحقيقة البازغة. تقوم إسرائيل المتربصة والقلقة والمتحفزة باستهداف طائرة استطلاع تابعة للقوات الإيرانية الداعمة للجيش السوري وتدمير مركز التحكم بها، فتنطلق صواريخ الدفاع الجوي السورية خلف طائرات الهليكوبتر الإسرائيلية فتسقط إحداها، ثم ترد إسرائيل بضربة جوية انتقامية دمرت عددًا من بطاريات الصواريخ الدفاعية السورية. قد يعتبر البعض أن ما حدث مجرد مناوشات لا أكثر، إلا أن النظرة الأعمق ترى فيما يجري ترقُبًا من يشحذون سيوفهم من الأطراف المتواجدة على الأراضي السورية. تعي القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية أن التواجد الإيراني في سوريا دائم ولن يزول إلا بحرب شاملة للقضاء على مصدر القوة الإيرانية الأكثر فاعلية في المشرق العربي وهو حزب الله اللبناني الذي تعاظم دوره في الحرب الأهلية السورية وصارت مواقعه المتقدمة تشرف على هضبة الجولان المحتل. السؤال الواجب بعد ذلك: هل الحرب حتمية لا مهرب منها، أم إن هناك طريقًا آخر يمكن أن تسلكه دول المنطقة التي على صفيح ساخن؟ تسابق القوى الإقليمية لبسط نفوذها للأسف الشديد، ليس هناك من مجال لإجابة مختصرة إيجابًا أو إنكارًا بغير النظر للظروف المحيطة بالمنطقة منذ سنوات ثم تنامي تأثيراتها وتداخلاتها واتساع نطاقها بصورة غير مسبوقة، وهو ما يدفع للحرص الشديد وعدم تجاهل أي من العوامل والمتغيرات على الساحتين الإقليمية والعالمية وصولًا إلى رؤية تقترب من الحقيقة. فإذا ما انطلقنا بتحليلاتنا من داخل الإقليم وصولًا إلى تقييم موقف القوى الكبرى في العالم، فسنجد أن القوى الإقليمية تتسابق لبسط نفوذها في المساحات التي هجرها شرطي العالم المتقاعد الولاياتالمتحدةالأمريكية. تُعد من الحقائق غير المنكرة سعي السلطان العثماني الجديد أردوغان لاقتناص مساحات في المحيط العربي المأزوم - كما سبق أن أوضحنا في المقال السابق - بعدما سُدت أمامه سبل دخول الاتحاد الأوروبي للأبد، فضلًا عن إجهاض أي محاولة لالتئام الشعب الكردي على أرض موحدة خصمًا من أراضي دولتي العراقوسوريا المتاخمتين لتركيا. كما لا يختلف نظام الملالي في إيران التي لا تزال أجواؤها ملبدةً بالاضطرابات المتتالية رغم قوة النظام وأجهزته الأمنية، وذلك بعدما أصبح قاسمًا مشتركًا في كل المواجهات الدامية من الفرات وحتى مضيق باب المندب. النظامان التركي والإيراني ومحاولة توسيع النفوذ! ينطلق النظامان التركي والإيراني حاليًاا من أرضية واحدة تهدف إلى توسيع دوائر نفوذهما وتأثيرهما وصولًا إلى تحقيق تسويات مهمة مع المجتمع الدولي ودعمه لتحقيق مصالحهما، وهما ناجحان إلى حد كبير حتى الآن في تحركاتهما التي تتلاقى في كثير من الأحيان مع أهداف القوى العالمية الكبرى. اتخذت المملكة العربية السعودية وحليفتها الرئيسية الإمارات العربية المتحدة قرارًا استراتيجيًا بالتدخل العسكري بتاريخ 25 مارس 2015 في مواجهة تحالف الحوثيين وقوات الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح اللذين قاما بالسيطرة على العاصمة اليمنية صنعاء بتاريخ 21 سبتمبر 2014، حيث مثل اعتراف إيران بانقلاب الحوثيين ودعمها له دلالة قاطعة على وصول المد الإيراني إلى ثالث العواصم العربية بعد بغداد ودمشق وتطويق دول الخليج العربي. التحالف العربي ضد ميليشيات الحوثيين لا تزال رحى الحرب دائرة بين التحالف العربي الذي تقوده السعودية والإمارات ضد ميليشيات الحوثيين منذ إعلان عمليتي عاصفة الحزم ثم إعادة الأمل، واللتين كبدتا الجانبين خسائر بشرية ومادية ضخمة، فضلًا عن تدهور أوضاع الشعب اليمني بصورة أرّقت الضمير الإنساني، بينما يظل المكسب الحقيقي لصالح إيران وأذرعها الممتدة في أركان الإقليم.. ساهمت جهود العديد من مراكز الأبحاث الاستراتيجية في وضع تصورات لسيناريوهات الحرب القادمة، بل يضع بعضهم تواريخ لاندلاعها! الذي يسترعي النظر في تلك السيناريوهات هي مواقف الأطراف الدولية الرئيسية سواء التقليدية وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية التي شرعت منذ سنوات في رفع عصاها الغليظة من الشرق الأوسط مرتحلة إلى قلب قارة آسيا لتثبيت مواضع أقدامها في الجمهوريات السوفيتية السابقة ذات الأغلبية المسلمة لتكون بالقرب من الخطر الآني والقادم المتمثل في النمر الصيني الرابض. تسعى القوى الأوروبية بريطانياوفرنسا وروسيا - كل على حدة - لملء الفراغ الذي أحدثه غياب الهيمنة الأمريكية على المنطقة، وبالتالي استعادة نفوذها القديم، في ظل ترحيب من أطراف عربية بعينها بذلك التواجد لاستبدال مظلة الحماية الأمريكية. مشاركة تيريزا ماي في اجتماع مجلس التعاون الخليجي لا يغيب عن ناظرنا دلالات مشاركة رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي في اجتماع مجلس التعاون الخليجي خلال شهر ديسمبر 2016 الذي كان بمثابة إعلان عن عودتها الرسمية للمنطقة، كما أن الدور الملحوظ الذي تلعبه فرنسا في أزمتي كل من سوريا وليبيا قد اتخذ شكلًا أكثر وضوًحا منذ وصول ماكرون إلى منصبه الرئاسي، ولا يوجد داعٍ للفت الأنظار إلى نجاح القيصر بوتين غير المسبوق في تحقيق حلم الروسيا منذ القرن السادس عشر بالوصول إلى البحار الدافئة – البحر الأبيض المتوسط – وعقد تحالفات ناجحة مع أطراف عدة، أهمها على الإطلاق النظام السوري الذي نجحت في دعم بقائه دوليًا وأصبحت اللاعب رقم واحد في تحديد مصيره، فضلًا عن الفوز بعقد بناء المحطة النووية المصرية في منطقة الضبعة والاتفاق الاستراتيجي في مجال إتاحة الاستخدام المتبادل للمطارات بين الجانبين. ما الذى يمنع نشوب الحرب؟! كيف تشتعل الحرب إذن في ضوء تلك المعطيات؟ ربما ينبغي إعادة صياغة السؤال بصورة أكثر واقعية وهي ما الذي يمنع من نشوب الحرب؟! أسهب بعض المفكرين والخبراء والمحللين المُتبصرين منذ عدة سنوات في الحديث عما أسموه باتفاقية (سايكس – بيكو) جديدة بدأ تنفيذها في المنطقة. وضعت الاتفاقية الشهيرة أساس اقتسام مناطق النفوذ في الشرق الأوسط بين الدول الكبرى عقب نهاية الحرب العالمية الأولى وخسارة الإمبراطورية العثمانية البائدة أملاكها عقب هزيمتها في الحرب، ذلك على الرغم من عدم التزام بريطانيا ببنود الاتفاقية فيما يتعلق بمنح سوريا ولبنان للفرنسيين وانحسار كليهما كقوتين استعماريتين عظميين بعد مغامرة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 التي وضعت مشهد النهاية لنفوذهما في المنطقة. يدفعنا ذلك إلى افتراض وجود نوع من الاتفاق أو التفاهم بين الأطراف الإقليمية والدولية لاقتسام النفوذ أو تحديد دوائر المصالح، إلا أن ذلك غير متيقن حتى هذه اللحظة وفقًا للشواهد وتقلبات المواقف تجاه الأحداث وتبدل التحالفات بصورة أضحت تبعث على الحيرة، بل تولد شعورًا بالقلق والترقب لحدوث التوازن الباعث على الاستقرار وانقشاع سحب الصدام. لا تبدو الأمور مبشرة في هذا الصدد خاصة في ظل التخبط الأمريكي وانحدار سياساتها إلى ممارسات عبثية وصبيانية وافتقادها الرصانة منذ وصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة، كما لا يظهر على الساحة نلك الشخصيات السياسية المحنكة التي عرفتها الحوادث التاريخية الكبرى القادرة على حسم الصراعات وعقد التحالفات عميقة الجذور. أهمية الحرب الشاملة في سيناء ربما يختلف العالم الآن عن كل مرحلة مضت وأصبحت ديناميكية تفاعلاته مع الأحداث في طور التشكُل، بالإضافة إلى صعوبة الوقوف على جميع أبعادها المتشابكة وتوقع نتائجها بشكل دقيق. لكن ما يهمنا ضرورة أن نعي جيدًا أهمية الحرب الشاملة التي نشنها في سيناء وعلى حدودنا الغربية على أذناب القوى الإقليمية الطامعة في بلدنا والطامحة إلى استبعاده أو تحييده في المرحلة المهمة الراهنة التي تشهد وقت التحولات الكبرى ورسم مناطق النفوذ. يلزم أن نفهم أن كل ما يعني أعداءنا أن ينقلوا معاركهم إلى أراضينا، وأن انتصارنا المؤزر سيتحقق برد كيدهم إلى أراضيهم لأن الفرصة التي يتحينونها لو واتتهم لحاصرونا من الشرق والغرب والجنوب، حتى يتسع نطاق المواجهة وتتشتت قواتنا كما فعلوا في سوريا. أخيرًا وليس آخرًا، تحقيق الاستقرار والأمن في هذه البقعة المضطربة من العالم سيتكلف الكثير، فلنستعد جميعًا.•