كثير من أبناء الطبقة المتوسطة يفخرون الآن بمشاركاتهم فى الأعمال المنزلية وفى تنشئة أطفالهم.. آلاف الآباء حطموا صورة «سى السيد» أمام أعين أبنائهم، بتفاصيل لم تفرضها فقط ظروف المعيشة، بل أيضا تذوق طعم مشاعر المشاركة فى غسيل الأطباق وتغيير حفاضة الرضيع. لتختفى تدريجيا صورة الأب التى تمسكت بها أجيال من الرجال المصريين، باعتبارها النموذج الأمثل للتربية، حيث المنزل والعناية بالأطفال والإلمام بتفاصيل حياتهم عبئا على الزوجة والأم وحدها، وما على الرجل إلا الإنفاق، والزعيق وتأنيب المخطئ من الأطفال. عبد النبى محمود 67 عاما مدرس على المعاش، يقول «رغم أننا درسنا فى المواد التربوية والصحة النفسية للأطفال ومراحل نموهم فى الطفولة والمراهقة والشباب، فالتفاصيل التى تملأ حياتنا اليومية تجعلنا نرتكب أخطاء بسلوكيات بعيدة عن الأسلوب السليم لتربية الأطفال، خاصة لو كان فى المنزل أكثر من طفل، فالأمر يزداد صعوبة وتكون التفاصيل اليومية مراعاة وتلبية احتياجات ثلاثة أطفال أمر شاق. ويستدرك: لكن مشاركة الأطفال اللعب والفسح البسيطة فى الإجازات الأسبوعية أمر يزيد الكثير من الآثار السلبية التى قد تجمعها ضغوط الحياة اليومية طوال الأسبوع. ويستكمل عبد النبى «بعدما أصبحت جدا ل5 أحفاد استوعبت درسا مختلفا فى تربية الأطفال، وهو ضرورة إتاحة فرصة أكبر للاستمتاع بتربية أبنائنا، ففى كل مرحلة عمرية هناك طريقة مختلفة لمشاركتهم الأشياء التى تسعدهم، والتربية فى حد ذاتها هى أكبر متعة يمكن أن تبهج الآباء وهم يرون أبناءهم فى المراحل العمرية المختلفة، ويتطورون معهم ومشاركتهم اهتماماتهم وأماكن خروجهم واختياراتهم». التربية الإيجابية كلمة السر فى تحول مفاهيم بعض الآباء من القسوة إلى اللين، هى انتشار مفاهيم جديدة فى التربية لم تكن دارجة من قبل مثل «التربية الإيجابية» و«التعليم باللعب»، والنقد الإعلامى للممارسات العنيفة ضد الأطفال، وتجريم بعضها حتى إذا كان الفاعل هو الأب، مثل العقاب البدنى والضرب، والحرمان والقسوة. وهى مبادئ لم تكن منتشرة بين أبناء جيل الأستاذ عبد النبى، إذ كانت مفاهيم تنشئة الأطفال تعتمد على المتوارث بين الأجيال، والفطرة التى تجعل الأم أقرب وأكثر إلماما بتفاصيل البيت والأولاد بحكم أنها كانت متفرغة. أحمد إسماعيل (32 عاما) المحاسب فى شركة خاصة، و الأب لطفلتين تقل أعمارهما عن الخمس سنوات يقول: «لم تكن لدى أى فكرة عن تنشئة الأطفال واحتياجاتهم لكن مع ميلاد ابنتى الأولى وجدت أنى أحتاج إلى الكثير من القراءة والبحث لكى أفهم هذا الكائن الصغير، تشاركت أنا وأمها الكثير من المقالات على الإنترنت، واكتشفنا أن الموضوع كبير». يتابع : «لم أكن مدركا لقدر المسئولية التى تقع على عاتقى بمجرد أن يتخلق طفلى فى بطن أمه، ولا يمكن أن يتخيلها أحد دون أن يمر بها، وكنت أظن أن المسألة تقف عند حد تأمين المعيشة والمأكل والملبس، وفوجئت أن كل كلمة أقولها أو حركة أفعلها لها وقع على سلوك طفلتى». لا يجد أحمد غضاضة فى مشاركة أطفاله اللعب أمام الناس، أو تلبية احتياجاتهم حين تكون الأم مشغولة بتولى الطفلة الأصغر أو العكس، بل تحولت المهام الصغيرة التى يؤديها أحمد وفق تعبيره إلى «متعة وراحة من هموم العمل والدنيا، حتى تغيير الحفاضة» وقال: «كأننى أراقب نباتا غرست بذوره بيدى يكبر ويترعرع، وأفرح كلما أثمرت وردة جديدة فى حياة طفلتى، كلما تعلمت كلمة وجاءت بفخر تقولها لى». صحيح أن نموذج أحمد مازال يواجه صراعا عنيفا، بجانب استهجان وتهكم البعض، ممن يتبنون الصورة التقليدية التى تكرس للقسوة والشدة كوسيلة وحيدة للتعامل مع الأطفال مثل مروان ماهر 38 سنة موظف بإحدى هيئات التنمية الزراعية، الذى يقول «لدى بنتان وولد، لو اعتادوا الدلع لن أستطيع تربيتهم، فهكذا ربانى أبى وأخوتى، وقد صرنا بفضل شدته جميعا فى مناصب مرموقة». رغم صغر سن أبناء مروان إلا أنه يُصر على أن يطبق نفس النموذج الذى تربى عليه، ففى فترات إقامته فى منزل ممنوع اللعب بصوت عال أو الغناء أو سماع الموسيقى، وقد يتطور العقاب فى أغلب المرات إلى العقاب البدنى رغم صغر سن الأبناء. لكنه يهمس «أعرف أن طريقتى هذه لن تصمد طويلا أمام احتكاك أبنائى بإعلام منفتح، وثقافة مجتمع متطورة، وزملاء التعليم، لكنى لا أستطيع تغيير طريقتى فى التربية التى أراها جزءا من شخصيتى ومن قناعاتى». محمد أبو الوفا أخصائى الطب النفسى بالإدارة العامة للصحة النفسية بوزارة الصحة، يقول: «مازال غالبية الآباء فى المجتمع المصرى يعانون من عدم معرفة معايير التربية السليمة، وقد ساهمت السينما والتليفزيون فى ترسيخ صورة ذهنية غير صحيحة للتربية وخاصة صورة الأب القاسى، الذى يوبخ أبنائه ولا يساهم بناء ثقتهم بأنفسهم، ولا يشارك فى تعليمهم القيم الإيجابية داخل المنزل.» بين الحزم والقسوة ويرى أبو الوفا أن كثيرا من أولياء الأمور لديهم خلط بين الحزم والشدة، والقسوة، فهناك فارق كبير بين القوة فى التعامل مع الأطفال وبين تعويدهم على النظام، والالتزام بالمواعيد، وهى أمور بسيطة يمكن تلقينها للأطفال منذ الصغر وبكثير من الطرق التى تساهم فى تنمية وعيهم، مثلا من خلال مشاركتهم فى ترتيب المنزل فى الصباح، أو التعود على المشاركة فى الأعمال المنزلية البسيطة، وبعد فترة سيكون ذلك جزءا أساسيا من سلوك وشخصية الطفل دون صراخ أو عقاب، سيتعلم الاعتماد على نفسه والالتزام، وهكذا يمكن أن ننقل لأطفالنا الكثير من القيم والعادات السلوكية الإيجابية لتكون جزءا من شخصيته منذ الصغر دون صدام. ويضيف أبو الوفا: إن دور الآباء والأمهات لا يقف عند إصدار الأوامر والنواهى والتوجيهات، ولكن يتعلم الطفل أسرع من الأمور التى يقوم بها الآباء أمامهم، كأن يرى الأب والأم يشتركان فى الأعمال المنزلية، فيتعلم قيم المساواة والمشاركة، ويرسخ ذلك لديهم أنه لايقلل من شأن المرء المشاركة فى الأعمال المنزلية، وأن أمه ليست أقل شأنا أو أقل أهمية من والده، لكن هناك توزيع للمهام.•