لا شك صباح الأجازة الأسبوعية صباح سعيد.. امتدت يدى للراديو وارتشفت قليلا من القهوة.. ارتجفت أذناى وتجمدت رشفة القهوة فى فمى.. وطار الصباح السعيد.. يبث الراديو شيئا غامضا وغريبا يقترب من البيان الرسمى، لكنه بيان يروج لمحمد عبدالوهاب ليس المطرب بالتأكيد ولكن محمد عبدالوهاب مبتدع المذهب الوهابى راعى تكفير كل البشر والذى تجسدت أفكاره فى القاعدة وداعش وقد سبقهم الإخوان الفاشيست المتحالفون مع الوهابية وإنتاجها المدمر. تأكدت أنها إذاعة مصرية وأصوات الممثلين من الأعلام الراحلين، تبينت صوتى حمدى غيث وأحمد مرعى. سيد الرحمة حولت المادة الدرامية للبرنامج الإذاعى شيخ التكفير محمد عبدالوهاب إلى سيد الرحمة والتسامح، ولم تكتف المادة الدرامية بهذا بل أعطتنا توجيها أن الأفكار الوهابية التكفيرية هى الحل.. كل هذا وسط صيحات التكبير والتهليل للمذهب ومبتدعه. بحثت عن سر الإذاعة الوهابية فوجدتها 91.5 fm أو ماسبيرو زمان للراديو وفى نهاية البرنامج عرفت اسمه (المسلمون والإسلام فى 1400 عام). منطقيا واستنادا للممثلين الراحلين الذين شخصوا الأدوار بأصواتهم ينتمى البرنامج لفترة السبيعنيات وقت الترويج للفكر الوهابى والإخوانى الكارثى لتقويض اليسار فى مصر بجميع تياراته وتحجيم نفوذ الاتحاد السوفيتى فى المنطقة. البرنامج الصفقة هذا البرنامج أحد مخلفات صفقة مهولة ثلاثية بين الولاياتالمتحدة والسادات والمملكة العربية السعودية، شملت الصفقة الترويج لهذا الفكر المتطرف على جميع المستويات الثقافية والسياسية والاجتماعية، وتزامنت أيضا مع الغزو السوفيتى لأفغانستان ولمن لا يتذكر فقد كانت بعض وسائل الإعلام وقتها تدعو الشباب إلى الجهاد فى أفغانستان كأنها تروج لرحلة سياحية طريفة ندفع ثمن تداعيات هذه الصفقة الكارثية حتى الآن، ولهذه الصفقة تفاصيل وخلفيات وأموال ومنفذون. تحتاج الصفقة إلى بحث خاص بها، وسنعود لها فى وقت ما، فلا يمكن أن يمر التاريخ أمامنا بلا محاسبة حتى نعتبر بما فات ولا نكرره. المذهب الوهابى خروج هذه الحلقة التى تمجد المذهب الوهابى التكفيرى من أقبية الإذاعة يرجع للمصادفة فى تقديرى وليس عن عمد، فلا يمكن أن أصحاب المذهب فى المملكة يتخلصون من تداعياته الكارثية على الحياة الاجتماعية فى بلدهم ونأتى نحن ونروج له. هذا عن فعل البث والذى نرجعه للمصادفة، أما الأثر على المتلقى فقد تحقق مع عبقرية الأداء التمثيلى لفريق البرنامج، فتم إحياء هذه الأفكار الشاذة فى عدد من العقول لا يعلم عددها إلا الله. استطاع هذا البرنامج القادم من دهاليز الصفقات اغتيال الحاضر وأسر المستقبل ولو بتأثيره فى شخص واحد استمع إليه وتفاعل معه، يطرح علينا بث البرنامج الوهابى قضية أكثر شمولا وإلحاحا الآن وهى التعامل مع التراث وتواجده الطاغى فى حاضرنا وتكبيله للمستقبل. رحيل صناع التراث رغم علمنا بأن التراث صناعة بشرية، وأن الصانعين رحلوا تاركين خلفهم هذا الميراث، لكننا حولنا ما هو بشرى قابل للنقد ثم الإلغاء أو الاستمرار إلى مقدس لا يمس، تقديس التراث جعل الاقتراب من صانعيه الراحلين مغامرة محفوفة بالمخاطر يدفع ثمنها كل مقترب، هذا الخوف الذى تولد داخل عقولنا سواء من التراث أو صانعيه جعل التراث يزداد تمكنا من رقابنا. استغلت جماعات ما يسمى بالإسلام السياسى هذا الخوف، بل عظمته فى النفوس والعقول وعملت على تجديد الخوف بإضافة نسخ جديدة للتراث، حتى وصل الأمر للشخصيات المعاصرة وأفكارها فأدخلوها فى حماية الحظيرة المقدسة للتراث، وتحول الإرهابيون بفضل عقيدة الخوف إلى أئمة والقتلة أصبحوا وعاظا والجهلاء هم أسياد العلم. يلوح سؤال مهم: لماذا توغل التراث إلى هذه الدرجة فى مجتمعنا ووصل إلى الحد الخانق للمستقبل وتهميش العقل الناقد.. والأخطر تحوله مرجعية للعنف والإرهاب؟ افتقاد النخبة لا توجد إجابة واحدة على سؤالنا لأنه سؤال يولد عشرات الإجابات الاحتمالية، ومنها افتقادنا للنخبة الجادة ذات العمق الثقافى الرصين التى تستطيع تشريح هذا التراث الدامى والتعريف بعواقبه، ويكن عمل هذه النخبة خالصا للتنوير وإحياء العقل الناقد وليس بحثا عن إثارة إعلامية. فهذا العمل المنقذ لمستقبل الأمة مكانه قاعات البحث وليس استوديوهات الفضائيات.. بالتأكيد يجب نشر هذا الجهد البحثى التنويرى على أوسع نطاق مستخدمين وسائل ثورة المعلومات والسوشيال ميديا والفضائيات، لكن هناك فرق بين استخدام الإنتاج البحثى فى التنوير واستخدامه كمادة للإثارة فى الميديا لأغراض شخصية كما يحدث الآن. صعوبة إعمال العقل الناقد تلوح إجابة أخرى عندما امتد زحف المقدس من النص التراثى إلى صانع النص تضاعفت صعوبة إعمال العقل الناقد، فالنص التراثى مهما بلغت أهميته هو مجرد نص ولكن الحيلة الخبيثة هى شخصنته فيصبح الجهد شاقا. تصل هذه الشخصنة المقدسة إلى درجات قصوى بسبب سياج الألقاب التى يضفيها مروجو التراث الدامى ومتابعيهم عن جهل، فنجد ألقابا أسطورية مثل شيخ الإسلام والإمام الشهيد وإمام التوحيد، وعندما نجتاز سياج الألقاب المضللة نكتشف بيسر أننا أمام صناع الفتنة وأرباب عقول القتلة والإرهابيين، ولكن هذا اليسر يصبح مستحيلا بسبب كم أسوار التخويف التى أحاطوا بها أئمتهم وتراثهم الدموى ويتصاعد التخويف إلى حد تكفير المقترب. ويعقب التكفير القتل كخطوة نهائية. اليوتوبيا المفقودة ندخل من باب الوهم فى الإجابات على سؤالنا المطروح، استطاع مروجو التراث الدامى تصدير صورة متخيلة حول تراثهم بأن هذا التراث عند تطبيقه أو التعامل معه فنحن نتعامل مع المدينة الفاضلة أو اليوتوبيا المفقودة، ويبلغ أفك الترويج حد إقناعنا بأن تراثهم الدموى ليس فقط عند التطبيق أو التعامل يعطينا اليوتوبيا المفقودة بل هو نفسه نتاج المدن الفاضلة.. يزيل علم التاريخ السحر الأسود للأفك، فالبحث التاريخى يؤكد بلا شك أن هذا التراث التكفيرى والدموى ناتج عن عصور فتن وتناحر وأن القتلة لا يكتبون وينتجون الشعر، بل يشقون البطون ويقطعون الرءوس بأنفسهم أو عن طريق أفكارهم التى تبيح هذه الأفعال الإجرامية. نأتى لسؤال آخر: هل نستسلم أمام كل هذا التخويف والإفك ونترك هذا التراث الدموى التكفيرى يخنق الحاضر ويقتل المستقبل؟ الوقفة الجادة الصارمة لو أردنا نهضة حقيقية على جميع المستويات سياسية، ثقافية، اجتماعية يجب أن نقف وقفة جادة وصارمة مع هذا التكفيرى الدمو ى؛ تستلزم منا فضح الإجرام الذى يحتويه ومدى زيف مروجيه وصانعيه ولا نرتجف أمام مقدس وهمى أقنعوا البسطاء بقداسته.. تأتى الخطوة الموازية لعملية الفضح وكشف الزيف وهى تقديم مشروع حضارى وتنويرى ينقذ العقول من سطوة الإفك ويفتح طريقا للحداثة والتقدم، وقبل كل هذا يخلص الدين الإسلامى العظيم مما علق به من تشويه على أيدى هؤلاء القتلة.. بالتأكيد لا تعتبر المهمة سهلة وهينة ولكن المستقبل يستحق أن نخوض هذه المعركة لأجله.. لأن المستقبل ملك لأجيال قادمة ستحاسبنا حسابا عسيرا إذا سلمناها حاضرا مشوها بالتكفير وملطخا بالدماء.•