من أهم الأمثلة الإنجليزية على الإطلاق عبارة المران «أو التمرُس» يصنع الكمال Practice makes Perfect لهذا فالبشر على اختلافهم يكتسبون خبراتهم العقلية والعلمية والعملية بالتطبيق العملى، وأفضل من يضع ذلك المثل موضع التنفيذ هم آباؤنا وولاة أمورنا فى مراكز صنع القرار وأجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية، ومن على شاكلتهم ممن يظنون أنهم أتوا إلى هذا العالم للتحكم فى مصائر البلاد والعباد، الشىء المدهش فى هؤلاء أنهم يكررون خططهم مع بعض الرتوش البسيطة التى تناسب طبيعة الزمان والمكان، ولكن دون التخلى عن مجموعة من المشاهد الرئيسية التى لا تخطئها أعين من يرون بعقولهم. الحرب لا يمكن استعراض تجربة سنوات الحرب السوفيتية الأفغانية «1979-1989» بصورة منصفة فى ضوء الكتابات الناقدة والأخرى المنحازة للطرفين المتحاربين، فما زلت أتذكر مقالاً للدكتور الراحل مصطفى محمود بأحد أعداد جريدة أخبار اليوم عندما كادت الحرب أن تضع أوزارها يصف فيه منتقدى المقاتلين الأفغان بأنهم من «الغارقين فى مستنقع الشيوعية»، كان المقال أحد أمثلة حالة التراشق المحموم فى تلك الحقبة بين تابعى المعسكرين الغربى والسوفيتى وحلفائهما الإقليميين والتى استمرت إلى أن تم إطلاق الرصاصة الأخيرة على العملاق الروسى عام 1991 والذى تحول عقب تفكيكه إلى نموذج صارخ للدولة الفاشلة التى تكالب عليها أعداؤها وأذلوها! لا جدال أو مساحة للخلاف أن غرق الاتحاد السوفيتى فى المستنقع الأفغانى كان الفصل الأخير فى المخطط الأمريكى لإسقاطه الذى شمل الخدعة الكبرى المسماة ببرنامج الفضاء الأمريكى لدفع الرمز الشيوعى الأبرز لمنافسة عبثية حتى أفلس، ما يعنينا فى تلك القصة هو استعانة السيناتور الأمريكى تشارلى ويلسون والمخابرات الأمريكية بحلفائها من الدول العربية والإسلامية «باكستان والسعودية ومصر» بالإضافة إلى إسرائيل! لأسلمة حرب التحرير الأفغانية، ومن ثم تصدير العناصر المتطرفة من أطياف ما تسمى بتنظيمات الإسلام السياسى الأصولية أبرزها الجهاد والجماعة الإسلامية المصريين وبدعم من سماسرة تنظيم الإخوان إلى بيشاورالباكستانية ثم أفغانستان للالتحاق بالجهاد ضد العدو السوفيتى الكافر! بزغت فى أعقاب ذلك ظاهرة الأفغان العرب والذين كانوا اللبنة الأولى لتنظيم القاعدة الإرهابى الذى جر على ديار العرب والمسلمين ويلات لاتزال رؤى العين. تفكك الاتحاد اليوغسلافى كان لسقوط الدولة التى تمثل ابن العم الأكبر للشعوب السلافية فى شرق أوروبا تداعياته الكارثية، وأبرزها على الإطلاق تفكك الاتحاد اليوغسلافى بعد مضى عشر سنوات فقط على وفاة مؤسسه الفذ جوزيف تيتو، يتذكر معاصرو تلك الفترة الحملات الصحفية والإعلامية المدعمة بالصور للصراخ والعويل وشق الجيوب مبرزةً الفظائع التى يتعرض لها شعب البوسنة المسلم الذى يقطن منطقة البلقان ذات التركيبة العرقية الفسيفسائية التى تشبه بلادنا فى المشرق العربى، الأهم كان الانتشار الواسع لأسطوانات الكمبيوتر المدمجة Compact Disc CD المسجل عليها مقاطع فيديو للمقاتلين العرب والمسلمين ممن التحقوا بالحرب الأهلية التى شنها جيش الاتحاد اليوغسلافى السابق ذو الأغلبية الصربية الذى رفض انفصال جمهورية البوسنة والهرسك. اندلعت الحرب بين الجيش اليوغسلافى والجمهوريات التى أعلنت انفصالها عن الاتحاد بدءاً من عام 1990 وهى «سلوفينيا - كرواتيا - مقدونيا - البوسنة والهرسك - إقليم كوسوفو» عدا جمهورية الجبل الأسود «مونتونيجرو» التى استقلت عن الاتحاد عقب استفتاء أُجرى عام 2006، وذلك عقب تبنى الرئيس اليوغسلافى الصربى سلوبودان ميلوسوفيتش سياسة عنصرية تعتمد على منح الصرب الأفضلية فى المناصب الحكومية وقيادات الجيش على حساب أعراق الكروات والسلوفين والبوسنيين وألبان كوسوفو، الأمر الذى دفع تلك العرقيات للإعلان عن رفضهم سياساته التى تتعارض مع الركائز الأساسية التى بنى عليها الاتحاد فى أعقاب الحرب العالمية الثانية وحقق نجاحاً اقتصادياً وسياسياً لا ينكر. سربرينيتشا Srebrenica عام 1995 تنطلق كالعادة فتاوى شيوخ الوهابيين والسلفيين لدعوة المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها لنصرة المسلمين فى البوسنة والهرسك وإعلان الجهاد على الصرب أعداء الدين، دون إنكار الانتهاكات التى تعرض لها البواسنة والتى كان أكثرها وطأة على الضمير الإنسانى مذبحة سربرينيتشا Srebrenica عام 1995، ويتكرر ذات السيناريو ولكن بنكهة أوروبية تدفع بحلف الناتو إلى صدارة المشهد ويتم سحق القوات الصربية من الجو والبحر عقب إقناع رئيس الوزراء «البريطانى» آنذاك للرئيس «الأمريكى» بيل كلينتون للتدخل لحسم المعركة. كالعادة أيضاً تنفذ الولاياتالمتحدة خطتها لتشذيب النفوذ الروسى فى شرق ووسط أوروبا تماماً بعد انحلال دولة يوغسلافيا الأقوى اقتصاديا وعسكرياً ودخول جمهورياتها فى سباق التزاحم على باب الاتحاد الأوروبى الناشئ آنذاك. لا تسفر الحرب «المقدسة» عن استقرار جمهورية البوسنة والهرسك التى لاتزال أراضيها رغم اتفاقية دايتون عام 1995 التى أنهت الحرب مع القوات الصربية محل نزاع متواصل على ضوء مطالب جمهورية صرب البوسنة بالانفصال والاندماج فى «صربيا الكبرى»، الشىء الأكثر إثارة للسخرية أن جمهورية البوسنة «المسلمة» لم تمنح جنسيتها لأولئك الغرباء البؤساء «المسلمين المجاهدين» الذين حلوا بأراضيها دفاعاً عن «إخوانهم فى الدين» رغم أنهم أقاموا بها وتزوجوا من بوسنيات! ربما كانت البوسنة أكثر وعياً من أفغانستان التى سمحت لتنظيم القاعدة بالاستقرار فى أراضيها فكان نصيبها أعواماً من الاحتلال الأمريكى الذى لن يرحل! فصل جديد بدأ ترتيب ملامحه على نفس النسق خلال الشهور الأخيرة فى منطقة هى خاصرة العملاق الصينى الذى جاء دوره فى سيمفونية التدمير الذاتى الأمريكية مع تقديم بريطانيا فى صدارة المشهد هذه المرة، لا يفوت المتابعون لأزمة الأقلية المسلمة «الروهينجا» فى بورما أو ميانمار أنها كانت مستعمرة بريطانية حتى استقلالها عام 1948، فالبريطانيون هم أساتذة ومؤسسو الاستخدام الدينى والمذهبى وإثارة النعرات الطائفية لتفجير الصراعات الداخلية لتحقيق السيطرة وفرض النفوذ على جميع الشعوب التى احتلتها واخترقتها اجتماعياً حتى يومنا هذا، هناك سؤال محير يصادف الباحث حول أسباب تلك الحالة من الاحتقان والكراهية من الأغلبية البوذية فى ميانمار، تمثل حوالى 89% من شعب ميانمار، للأقلية المسلمة التى تشكل حوالي4% دون غيرها فى بلد يضم حوالى 100 أقلية ولغات مختلفة؟! بل إن الأقلية البروتستانتية وفقاً للمعلومات المتوافرة تشكل أيضاً نفس النسبة حوالى 4% فلماذا لا يُضطهدون أيضاً؟ بل إن هناك معلومة غاية فى الأهمية، وهى أن الأصول العرقية لنسبة من الأقلية المسلمة بميانمار تنحدر من الهنود المسلمين الذين جلبهم البريطانيون معهم من مستعمراتهم الكبرى فى شبه القارة الهندية لشغل الوظائف العامة خلال فترة احتلالهم لها. فهل كان لذلك تأثير على الذهنية العامة لغير المسلمين بأن أولئك المسلمين هم غرباء جاءوا مع من احتلوا أراضيهم؟ لا نستطيع الجزم بذلك، كما لا يمكن بأى حال إنكار ما يعانونه من اضطهاد، إلا أن تلك الانتهاكات ليست وليدة اليوم بأى حال! فهى ترجع إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى وتزايدت وتيرتها خلال العشرين عاماً الماضية بسبب تصاعد الأعمال الإرهابية للتنظيمات المتطرفة خاصةً بعد تحطيم حركة طالبان لتمثالى بوذا! أسباب تسليط الضوء على مسلمى الروهينجا إذن ما هى الأسباب الحقيقية لتسليط الأضواء فجأة على مسلمى الروهينجا وغيرهم من الأقليات المسلمة فى دول متاخمة للصين الحبيسة التى تسعى للوصول إلى الطرق والموانئ الاستراتيجية التفافاً حول عدوتها اللدود الهند الواعدة اقتصادياً، لن نندهش عندما تُثار خلال الفترة القادمة قضية الأقليات المسلمة فى الصين ذاتها كمسلمى الإيغور والبقية تأتى فى الطريق فالإثنيات المسلمة فى الصين تناهز 10 أقليات وجميعهم يعانون التضييق وفقاً للنموذج الصينى الصارم منذ عقود طويلة! كعادتنا سننفذ المخطط الأمريكى البريطانى كما يريدونه لنا دون أن نسعى بأنفسنا لإنهاء معاناة أولئك المضطهدين، بل سنتبع ما ألفناه فى كل مرة تاركين لهم المجال لاستخدام المشاعر الدينية لتحقيق أهدافهم دون أهدافنا! ماذا ينقصنا أليس لدينا الأزهر الشريف الرمز الإسلامى الذى لا تضاهيه أى مؤسسة دينية فى العالم سوى الفاتيكان؟ أليس لدينا قنواتنا الدبلوماسية وسفاراتنا، لماذا لا يتم استخدام ما نملكه لتحقيق ما نريده نحن؟ إذا ما قررنا ذلك لن نحتاج إلى أن نذهب لأى مكان بل سيأتى إلينا الجميع، ما المانع أن نجرب هذه المرة؟