هو أنبغ ملحنى عصره.. وأحد صناع التراث الموسيقى وثالث الخمسة الكبار سيد درويش، محمد القصبجى، زكريا أحمد، رياض السنباطى، محمد عبدالوهاب. هو أحد عمالقة الموسيقى العربية وأغزرهم تلحينا، إذا قدر عدد الأغنيات التى لحنها بنحو ألف وأربعمائة أغنية. هو من أشد الموسيقيين العرب تعصبا لعروبة موسيقاه وأوضحهم فى انتمائه المصرى الأصيل. هو الابن الحادى والعشرون للسيد أحمد صقر مرزبان والسيدة فاطمة التركية الذى ولد بعد وفاة أحد عشر ولداً. هو شيخ الملحنين زكريا أحمد. الحديث عن شيخ الملحنين والموسيقيين زكريا أحمد يكاد لا ينتهى، فحياته زاخمة بالأحداث والشخصيات والموسيقى والشعر والزجل.. تقول ابنته السيدة نجية زكريا أحمد : (تزوجت والدتى من أبى وكان عمرها أحد عشر عاما ونصف العام.. أنجبت له واحدا وعشرين طفلا.. مات منهم أحد عشر من الذكور.. وبقى لها عشرة.. تسع بنات وولد واحد هو زكريا.. أمى كانت ست الناس كلهم.. ووالدى كان يحترمها ويجلها ولا ينطق اسمها إلا مقترنا بلقب (هانم).. كان أبى شديد الوله بزكريا ويخشى أن يفقده.. وكان زكريا شديد الذكاء، سريع الحفظ ولكنه كان شقيا جدا.. وأذكر مرة أنه طرد من الكُتَّاب بعد أن عض الشيخ الذى ضربه). ولد الشيخ زكريا أحمد فى 6 يناير 1896 ببلدة سنورس محافظة الفيوم لأب حافظ القرآن وهاوى سماع التواشيح مما منح زكريا الحس الموسيقى. أراد له والده الاتجاه نحو المشيخة والعلوم الدينية.. فانتقلت العائلة إلى القاهرة لتقطن بحى الجمالية بالقاهرة الإسلامية وقرب الأزهر الشريف.. ألحقه والده بأحد الكتاتيب القريبة والذى طرد منه، ثم مدرسة ماهر باشا التى لم يستمر بها طويلا لأنه لم يكف عن الغناء ما دفع ناظر المدرسة إلى طرده.. ثم التحق بالأزهر. وتقول نجية زكريا أحمد : (كان والدى يتمتع بحس موسيقى جعله يتتبع غناء كبار المنشدين والمطربين وتأثر بمنشدى التواشيح الدينية مثل الشيخ درويش الحريرى زوج خالته، كما تأثر بألحان عبده الحامولى والشيخ سلامة حجازى وكان يذهب إلى أماكن تواجدهم وحفلاتهم ويحفظ ألحان هؤلاء بسرعة عجيبة وأصبح يشترى كتب الأغانى والموشحات والموسيقى.. وأذكر مرة أنه وضع غلاف كتاب (الفقيه ابن مالك) على كتاب (مفرح الجنس اللطيف).. وعندما سأله أبى عما يدرس؟.. قال : الفقيه.. وعندما اكتشف والدى الخدعة عنفه بشدة وكان شديد القسوة معه، مما أخاف زكريا وجعله يترك المنزل ولا يعرف أين يذهب.. حزن أبى.. وبعد أيام توسط أهل الخير.. وعاد زكريا إلى المنزل.. وبدأ أبى الذى استبد به القلق على ابنه ومصيره فى محاولة إسداء النصح له.. فقد كان الفن فى رأيه لا يطعم ولا يفيد.. (وهاهم أساطين الطرب وأساتذة التلحين عبده الحامولى ومحمد عثمان ومحمد سالم ماتوا فقراء). • البداية منشدا لم يكن المنزل الذى عاد إليه الشيخ زكريا أحمد بالمنزل الهادئ.. فقد ماتت والدته وتزوج والده بأخرى كانت تتفنن فى تدبير المكائد له.. وتثير والده عليه، حتى يأس من حياة مستقرة.. وبدأ الفن يواسيه فى معاناته ويلهب مشاعره وخياله.. فأخذ يطوف الأرياف يُسمع الناس ويستمع إلى تراث الفلاحين. فى عام 1914 بدأ حياته الفنية منشدا ببطانة الشيخ على محمود والشيخ إسماعيل سكر.. وبدأ يظهر فى حفلاتهما، فتعرف عليه الناس وعلى أدائه المتميز.. ثم بدأت الفرق الغنائية الأخرى تجذبه إليها.. أصدرت دار الشروق بالتعاون مع مركز توثيق التراث الحضارى والطبيعى بمكتبة الإسكندرية ضمن موسوعة أعلام الموسيقى العربية.. كتابا عن زكريا أحمد يضم أكثر من أربعمائة صفحة ويُعد هذا الكتاب هو العمل الخامس فى المشروع القومى للحفاظ على تراث الموسيقى العربية، حيث قدم المشروع أربعة أعمال توثق تراث كل من أم كلثوم.. سيد درويش.. سلامة حجازى.. محمد عبدالوهاب.. زكريا أحمد.. ويتبعهم فريد الأطرش ورياض السنباطى. الكتاب أعدته إيزيس فتح الله.. تقول فيه : (إن زكريا أحمد درس فى الأزهر وكان أبوه يؤهله ليصبح من علماء الدين، حيث أتم حفظ القرآن ودرس علوم اللغة والفقه الإسلامى وارتدى الزى التقليدى للمشايخ، لكنه مال إلى الإنشاد الدينى وساعده حفظ القرآن على التمكن من روح اللحن العربى وتعلم أصول الإيقاعات الموسيقية على يد الشيخ درويش الحريرى صاحب (مقامات الحريرى) الذى كان حجة فى الموسيقى العربية). فى 20 أغسطس 1919 تزوج زكريا أحمد من شقيقة زوجة الشيخ درويش الحريرى.. اشتهر شيخ الملحنين بدماثة الخلق والاعتزاز بالكرامة.. والتمسك بالحق.. والحنو على الضعفاء. وتروى ابنته نجية : (أنه ذات ليلة ممطرة من شهر يناير.. كان أبى عائدا إلى المنزل بحى السيدة زينب.. فوجد سيدة تبيع الفجل ومعها أطفالها الصغار.. فوقف أمامها وسألها عن ثمن كل الفجل الذى معها.. فأجابته.. اتنين جنيه يافندى.. فما كان منه إلا أن دفع لها الاتنين جنيه وأخذ مشنة الفجل ومشى بها حتى وصل البيت.. زهلت أمى.. وفى الصباح أخذ الفجل ووزعه على الجيران وأصدقائه فى المقهى، الذى كان يطلق عليه (أهل الهوى).. وعاتبه بعضهم لأنه كان يمكنه أن يعطيها المبلغ صدقة.. لكن لا يحمل الفجل.. وكان رده عميقا وإنسانيا.. وقال : لو تركت لها الفجل ومعها المبلغ كانت ستظل فى مكانها تحت المطر والبرد مع أطفالها فى انتظار من يشتريه منها. • سيد در ويش كان لفنان الشعب سيد درويش الأثر الأكبر فى حياة زكريا أحمد.. فقد التقاه فى عام 1917 وكان زكريا فى العشرين من عمره.. وكان إعجابه بسيد درويش شديدا، حتى أنه تأثر بموسيقاه وألحانه لا سيما تأثره بتلحين الروايات المسرحية والغنائية، لذا كان من الطبيعى أن يرث الشيخ زكريا أحمد زعامة المسرح الغنائى عقب رحيل سيد درويش فى مارس 1923. ويقول كتاب زكريا أحمد : (إنه خاض تجربة التلحين للمسرح لأول مرة عام 1916 إذ قدم ألحانه مجانا لعرض (فقراء نيويورك) الذى قدمته فرقة مسرحية من طلبة هواة ضمنت حسين رياض وحسن فايق.. ثم عاود تجربة التلحين المسرحى فى عام 1924 فى عرض (دولة الحظ) الذى قدمته فرقة على الكسار بعد رحيل فنان الشعب سيد درويش الذى تميز فى هذا المجال.. وكان آخر ألحان زكريا أحمد للمسرح عرض (عزيزة ويونس) تأليف محمود بيرم التونسى فى عام 1945 والذى قدم فيه لحنه الشهير يا صلاة الزين تقول كلماته: يا صلاة الزين على الأمراء يا صلاة الزين على الحلوين يا صلاة الزين على الحاضرين يا صلاة الزين ليلتهم حلوة ومحليها رب القدرة ومنورها إخوان أمراء وقصدناهم أمراء وشعراء وجدناهم كيف البحرين يا صلاة الزين يا مداحين إيه قولوا على عزيزة بنت السلطان يا صلاة الزين على عزيزة عزيزة شابة والله شابة شابة وشباب تواظرها تسحر الألباب وضفايرها.. عند الأكعاب ومباسمها خمر ه وشراب قمر ليلة عشرة واثنين يا صلاة الزين • بيرم التونسي وكما ورث زكريا أحمد زعامة المسرح الغنائى عقب رحيل سيد درويش.. ورث أيضا صداقته للشاعر الكبير بيرم التونسى وكونا معا ثنائياً غنائياً من أهم الثنائيات فى تاريخ الأغنية المصرية والعربية. تقول نجية زكريا أحمد: «أبى وبيرم كانا «توأمين»، لايفترقان.. كل ليلة سهر وسمر.. ولايكتب بيرم أغنية إلا ويسمعها لأبى الذى كان يصلح له ذى مطلع أغنية أنا فى انتظارك.. كان بيرم كتب «أنا فنتظارك».. وذى «زودلى آساه».. كان بيرم يقول «فأساه».. أبى كان يكتب جوابات لأصدقائه بالزجل والشعر.. ولكنه كان عاشقا للموسيقى مجنونا بها.. وذات مرة طلب منه على الكسار لحنا لمسرحية «العفاريت» عام 1924.. فما كان من والدى إلا أنه ارتدى ملابس المجاذيب وذهب إلى المقابر ليلا ومعه العود ليستحضر الموقف.. فقد هيأله خياله أن العفاريت تظهر غالبا ليلا وفى المقابر.. وجلس يدندن بالعود ومعه بطارية ليسجل على نورها نوتة اللحن.. وبينما هو كذلك مر عسكرى الدرك الذى تخوف فى البداية.. لكنه أنصت وانتبه إلى العزف، فأحضر اثنين من زملائه واقتحموا المقابر، وحاول والدى طمأنتهم إلا أنهم أصروا على اصطحابه إلى قسم الشرطة بتهمة «تكدير الأمن العام».. غير أن الضابط تفهم الموقف وصرف الشيخ زكريا أحمد بعد أن كان استلهم اللحن ليتمه بالمنزل. بلغ عدد المسرحيات الغنائية التى قدمها الشيخ زكريا أحمد خمسة وستين مسرحية لأعظم الفرق وقت ذاك مثل فرقة على الكسار، نجيب الريحانى، زكى عكاشة، ومنيرة المهدية، كما وصلت الأغنيات التى لحنها إلى ألف وأربعمائة أغنية و13 أوبريتاً. حينما اقتحم الشيخ زكريا أحمد مجال التلحين عانى كثيرا من قفطانه وقيل فى سيرته الذاتية أنه حين كان يدرب الممثلين والممثلات على تمثيل المشاهد أو أسلوب إلقاء الأغنيات.. كان أحيانا يتعثر فى قفطانه ويقع.. وحين أكمل تلحين ستة أوبريتات واشتهر.. تعرف عليه أمير الشعراء أحمد شوقى والناقد المسرحى عبدالمجيد حلمى واستطاعا إقناعه بترك القفطان والجبة إلى البدلة والطربوش. ويسجل كتاب زكريا أحمد أن شيخ الملحنين بدأ فى عام 1923 مجال التلحين بالأغانى الخفيفة.. فمن ألحانه غنت منيرة المهدية: إرخى الستارة إيللى فى ريحنا لحسن جيرانا تجرحنا. ولفتحية أحمد المطربة الشهيرة فى ذلك الوقت قدم أغنية يا حلاوة الدنيا التى مازالت تتردد لليوم وغناها الشيخ إمام والشيخ سيد مكاوى. • أم كلثوم فى شهر رمضان عام 1919 دعا على بك أبوالعينين مجموعة من المنشدين لإحياء ليالى رمضان.. وكان من بين المدعوين الشيخ زكريا أحمد الذى التقى فى هذه الليلة مع عازف القانون محمد أفندى عمر وحدثه عن مطربة ناشئة لو أتيح لها اللحن والإعداد الجيد فسوف تصبح فنانة عظيمة.. فى هذه الليلة أيضا كان موجوداً الشيخ أبوالعلا محمد وأم كلثوم وشقيقها خالد واستمع إليها الشيخ زكريا أحمد وفتنة صوتها.. ودعاه والدها الشيخ إبراهيم إلى منزلهم فى قرية طماى الزهايرة وذبحوا له وزة.. وحاول الشيخ زكريا إقناع والدها بضرورة الذهاب إلى القاهرة مذكرا إياه بأن الشيخ سيد درويش لو ظل فى مقهى كوم الدكة بالإسكندرية ولم يذهب إلى القاهرة ما كان انتبه إليه أحد.. واقتنع الشيخ إبراهيم.. وجاء بعائلته إلى القاهرة.. وبحث لهم الشيخ زكريا عن سكن تقيم فيه أم كلثوم وعائلتها.. وكانت إقامتهم بحى عابدين وتعهدها الشيخ زكريا مع الشيخ أبوالعلا محمد. لحن الشيخ زكريا أحمد وكتب بيرم التونسى كثيرا لأم كلثوم بدءاً من دور «هو ده يخلص من الله» وحتى دور «عادت ليالى الهنا».. وبهذا الدور انتهت دورة الأدوار التى بدأها عبده الحامولى ومحمد عثمان فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر.. وبدأ عصر الأغانى والطقاطيق.. بطقطوقة «اللى حبك ياهناه» لأم كلثوم عام 1931 من أشعار أحمد رامى. • قصة أنشودة الفؤاد ويسجل كتاب زكريا أحمد.. إنه أول من لحن للسينما المصرية فى أول فيلم غنائى مصرى «أنشودة الفؤاد» للفنانة نادرة والذى كتب حواره وأغنياته شاعر القطرين خليل مطران. ولهذا الفيلم قصة طريفة ترويها ابنته نجية زكريا أحمد: «ذهب أبى إلى باريس مع الممثلين جورج أبيض وعبدالرحمن رشدى والمطربة نادرة لكى يقوم بتلحين أغنيات الفيلم وتسجيل هذه الألحان باستوديوهات باريس.. وهناك فوجئوا بعدم حضور الفنان استيفان روستى الذى كان أحد أبطال الفيلم.. وهنا اضطر المخرج للاستعانة بممثل آخر.. ووقع اختياره على أبى ليقوم بدور الشرير الذى كان مقررا له استيفان روستى، ليصبح الشيخ زكريا أحمد ملحنا ومغنيا وممثلا». تألقت أم كلثوم مع ألحان زكريا أحمد وكلمات بيرم التونسى.. ويستعرض كتاب زكريا أحمد بعض أشكال التطوير اللحنى لدى شيخ الملحنين.. ومنها إدخال الجمل الكلامية أثناء الغناء، كما حدث فى أغنية أم كلثوم «قوللى ولاتخبيش يازين» فى فيلم سلامة عام 1945.. وقال فيها بيرم التونسى: قوللى ولاتخبيش يازين إيش تقول العين للعين لما العين تشوف حبيب تقوله ولاتخشاش رقيب بعيد وصالك ولاقريب ويوم الوعد تشوفك فين هادا والله كلام العين واللى يوافى للمحبوب بيوم الوعد عليهش ذنوب يوافى الوعد ولاينساه إذا كان فيه شفاه ودواه وياما ذنوب يغفرها الله وربك والله رب قلوب هذا هو القول المطلوب قوللى ولاتخشاش ملام حلال القبلة ولاحرام القبلة إن كانت من الملهوف ايللى على ورد الخد يطوف ياخدها بدل الواحدة ألوف ولايسمع للناس كلام قوللى يا عالم بالأشواق الحب حلو ولاحراق الحب حلاوته بالقنطار يدوقوا منه كبار وصغار حلاوته تطول فى الأعمار إذا ما يكونش وراها فراق كما لحن الشيخ زكريا أحمد وكتب بيرم التونسى معظم أغانى أفلام أم كلثوم.. مثل غنى لى شوى شوى.. وعن العشاق وسلام الله على الأغنام.. والورد جميل والتى سجلها وغيرها بصوته بعد أكثر من عشرين عاما من غناء كوكب الشرق لها.. تقول كلماتها: الورد جميل وله أوراق عليها دليل من الأشواق إذا أهداه حبيب لحبيب يكون معناه وصاله قريب شوف الزهور واتعلم بين الحبايب تتكلم شوف واتعلم والنرجس مال يمين وشمال على الأغصان بتيه ودلال عيونه تقول معانا عزول تعال بعيد عن العزال يا فل روح يا روح الروح من شم هواك عمره ما ينساك شوفوا الياسمين جميل نعسان حلى له النوم على الأغصان بكل حنان تضمه الإيد وبه تزدان صدور الغير شوف الزهور واتعلم لم تكن هذه هى الأغنية الوحيدة التى سجلها الشيخ زكريا أحمد بصوته ولكن هناك أكثر من أغنية ما زالت تمنح السرور فى الأفراح والمناسبات السعيدة منها يا صلاة الزين ويا حلاوة الدنيا.. ورغم مرور أكثر من نصف قرن عليها «وهو أمر يستحق النظر» لأن صوته الأجش لم يكن جميلا.. لكنه كان يتمتع بما هو أبلغ من جمال الصوت وصفائه.. كان يملك عبقرية الخلق وسحر التعرف وروعة الأداء وعمق الإحساس بالكلمة. وعن شيخ الملحنين زكريا أحمد.. قال الموسيقار محمد عبدالوهاب «هذا الرجل هو أصدق من يعبر عن رأيه بالطريقة التى يحبها.. ربما لا تروق للبعض.. لكنه يعبر عن طبيعة نفسه بصدق وفهم نادر الوجود.. وفى طبعه التحدى.» فى الأربعينيات من القرن الماضى بدأ الشيخ زكريا أحمد فى تلحين عدد من الأغانى الكلاسيكية الطويلة التى أصبحت تراثا وعلامة فارقة فى تاريخ الأغنية العربية مثل الآهات.. أنا فى انتظارك.. الأمل.. حبيبى يسعد أوقاته.. أهل الهوى.. هو صحيح الهوى غلاب.. ولهذه الغنوة قصة سجلها الكاتب حلمى النمنم فى مقال بعنوان «زكريا أحمد أنزل الفن من قصره العاجى» قال فيه.. فى عام 1953 ساءت العلاقة بين الشيخ زكريا أحمد وأم كلثوم حول حق الأداء العلنى.. فقد كانت الإذاعة المصرية تدفع للمطرب فقط.. وتتجاهل الملحن.. ورأى هو فى ذلك إجحافاً به.. فطالب أم كلثوم بحقوقه وكانت بالآلاف.. وقدرها هو فى البداية بثلاثين ألف جنيه.. ولم تستجب أم كلثوم.. فلجأ إلى القضاء.. وظلت القضية تتداول حتى عام 1960.. وشعرت أم كلثوم بأنها خسرت ألحان زكريا أحمد وكلمات بيرم التونسى، فسعت إلى الصلح وذكرته بالوزة التى أكلها فى بيتهم.. فرد قائلا: لها عندى وزة ولى عندها ثلاثون ألف جنيه.. كان قوى الحجة متمسكا بحقه.. وكانت هى تريد المصالحة ولا تريد الدفع.. وأخيرا أصلح القاضى بينهما. وقد قالت ابنته نجية زكريا أحمد أن الرئيس عبدالناصر طلب من القاضى إنهاء هذا الخلاف وديا حتى لا يخسر أحد الطرفين.. وكان الرأى العام يتابع القضية.. وبالفعل أصلح القاضى بينهما وراضى الطرفين.. وطالبهما بالعودة إلى العمل معا واستجابا.. وكان لحن وكلمات زكريا وبيرم. هو صحيح الهوى غلاب ما أعرفش أنا والهجر قالوا مرار وعذاب واليوم بسنة جانى الهوى من غير مواعيد وكل مادا حلاوته تزيد ما أحسيش يوم ح يخدنى بعيد يمنى قلبى بالأفراح وأرجع وقلبى كله جراح إزاى يا ترى؟ أهو دا اللى جرى وأنا معرفش نظرة وكنت أحسبها سلام وتمر قوام أتارى فيها وعود وعهود وصدود وآلام وعود لا تصدق ولا تنصان عهود مع اللى مالوش أمان صبر على ذلة وحرمان وبدال ما قول حرمت خلاص أقول يارب زدنى كمان يا قلبى آه.. الحب آه أشجان وألم وأندم وأتوب وعلى المكتوب ما يفدش ندم ياريت أنا أقدر أختار ولا كنت أعيش بين جنة ونار نهارى ليل وليلى نهار أهل الهوى وصفوا لى دواه لقيت دواه زود فى أساه إزاى يا ترى أهو دا اللى جرى وأنا معرفش • النجمى.. وكتابه يقول الكاتب والناقد كمال النجمى فى كتابه «زكريا أحمد من جيل الملحنين الكبار سيد درويش وداود حسنى وكامل الخلعى.. رأيت الشيخ فى أوقات قصيرة متفرقة فى الخمسينيات والسيتينيات.. وكنت قد سمعت ألحانه كلها، فازددت معرفة بجوهر هذا الفنان، الذى ربما ظن من رآه ولم يكن يعرفه أنه مجرد راو للنكت، خفيف الظل باسم العينين ولا يحمل هموم الدنيا.. وكانت رؤيتى للشيخ زكريا أحمد تقع مرة كل سنتين أو ثلاثة.. فلا أراه فى كل مرة إلا على حالة التى تركته عليها فى المرة السالفة ضاحكا ممازحا حاضر النكتة، مسدد البديهة حفظا وارتجالا.. ولكن تصاريف الزمن لم تكن تخفى ولو على النظرة العابرة إلى ملامحه، فالتجاعيد تتكاثر حول الجفنين والشفتين وتنتشر فى صفحة الوجه طاغية على آثار الصباحة والملاحة القديمة.. ومن وراء التجاعيد كانت تطل حكاياتها، فالشيخوخة وحدها لم تكن السبب، هناك أعباء الأعصاب المكدودة، وهناك أحزان النفس وهموم القلب وقروح الكبد. كنا نسمع ما يلاقيه شيخ الملحنين فى حياته.. وكنا نسمع أيضا أن وجهه الضاحك المتودد إلى من يلقاه لا يسعه أن يكتم الضحك كى لا يسعه أن يتكتم الأسى، ولكن من يلقاهم كانوا لا يتصورونه إلا مبتسما أو ضاحكا، كيف لا يكون كذلك ملحن تقطر ألحانه سرورا وبهجة وابتهاجاً.. ولكن العارفين به كانوا يقولون أن ملحن البهجة والرقص والحبور كان أيضا ملحن الحزن وصاحب أوجع الألحان.. فقد كان عميق الشعور بقهر الأيام، ولكن لم يستسلم، بل تحدى وقاوم مثله مثل توأمه الروحى بيرم التونسى الذى ارتبط به ارتباطا شديدا فقد عاشا معا، أبدعا وتألقا معاً ورحلا معاً، حيث مات شيخ الملحنين زكريا أحمد بعد أربعين يوما من رحيل صديقه وتوأمه وكاتبه بيرم التونسى. •