أزعم.. أن عشرات الملايين ممن يتعاملون مع صيحة البريد الإلكترونى على مستوى محافظات مصر سواء لإنجاز الأعمال التجارية أو الخدمية أو التسلية وتبادل النميمة أوتمضية الوقت بشكل أو بآخر، لا يعرفون من هو هذا الفذ الذى توصل لاستخدام رمز ال«@» لكى يكون البوابة السحرية والقفزة الجنونية غير المرئية التى تنقل الكلام والصور والنغمات والأفلام إلى مسافات تصل فى بعض الأحيان إلى آلاف الأميال فى وقت يقاس بالثانية. هذا المُبتكر الذى منح العالم أسهل وأسرع وسيلة اتصال وتواصل، لم يحظ بما حظى به ثلاثة آخرون من شهرة ومعرفة فى ميدان الاتصال.. «صامويل موريس» مكتشف وسيلة التلغراف عام 1844.. و«جرهام بل» مخترع وسيلة «الهاتف» عام 1876.. و«ماركونى» الذى توصل عام 1895 إلى وسيلة نقل «الصوت» عبر الهواء.. هؤلاء حُفرت أسماؤهم فى سجل التاريخ، أما صاحبنا فلم ينل هذا الشرف. • لماذا؟ ببساطة، لأنه من ناحية لا يحب الشهرة ولا يسعى إليها وراض حتى الآن بحياته وما يتحمله من مسئولية ومازال قادرا على العطاء من داخل دائرة الظل!! ولأن ابتكاره هذا انتقل إلى العالمية دون جهد أو تخطيط من جانبه من ناحية أخرى. • ما علينا أتحدث يا أعزائى عن المواطن الأمريكى براى توملينسون «Bray Tomlinson» الذى بعدما تخرج فى معهد «ماساشوستس» للتكنولوجيا «Machusetts Tich» عام 1965 التحق بالعمل فى شركة «بى بى إن» «b. b. n» ضمن فريق متخصص «لوضع برنامج يحقق لوزارة الدفاع الأمريكية القدرة على التواصل السريع كامل السرية والتأمين مع الكليات والمعاهد العلمية ذات الصبغة العسكرية على مستوى الولاياتالأمريكية، ويسمح لهذه الأطراف بالتواصل فيما بينها داخل دائرة مغلقة محكمة التحصين. يمكن لنا التأكيد أن هذا البرنامج الذى أصبح يعرف باسم «أربانت» «ARPANET» كان محلياً بالمقارنة بالبرامج ذات الصبغة العالمية التى مازالت تتوالد من رحمه كل يوم!! وهو بمقاييس اليوم لا يرقى وفق أى معيار لوسيلة البريد الإلكترونى كما أصبحنا نتعامل بها.. هو لا يعدو أن يكون من نوعية البرامج التى تستخدمها الشركات محدودة الإمكانيات لتبادل المعلومات داخل مبناها وفى حدود الاختصاص الذى تمارسه والخدمات التى تقوم عليها أو الإنتاج الذى تطرحه فى الأسواق. وفى نفس الوقت يعتبره المتخصصون التربة الخصبة التى أنبتت ما نمتلكه اليوم من إمكانيات وقدرات على مستوى تقنيات الاتصال عبر الشبكة العنكبوتية، بل هناك من الدراسات الحديثة ما يصفه بأنه «الأم الرؤوم» التى ولدت هذا «الرمز» الذى أضحى أكبر وأوسع العناوين البريدية شهرة منذ فجر التاريخ ونقصد بها ال «@». نجحت شبكة أربانت فى تحقيق التواصل على مستوى المستهدفين عبر وزارة الدفاع الأمريكية والمعاهد والكليات ذات الاختصاص باستخدام البرنامج المعروف باسم «SNDMSG» الذى يساعد على صنع ملف لتبادل المعلومات بين شخصين أو ثلاثة على الأكثر مشتركين فى عمل محدد من خلال جهاز كومبيوتر واحد من الطراز الجماعى.. حيث يترك كل منهم رسالة نصية لزميله الذى سيقوم بتشغيل الجهاز بعده دون أن يكون مضطراً للقائه. • وحدث تطور آخر عندما نشأت حاجة وزارة الدفاع الأمريكية إلى تحديث دائرة تواصلها هذه، فطلبت من الخبراء زيادة عدد المتعاملين من خلال برنامج «أربانت» بحيث يسمح بنقل الملفات من كومبيوتر إلى آخر! فقدم لها صاحبنا برنامجا أطلق عليه «سيبنت» «CYPNET» الذى حقق لها هذا المطلب مشترطا أن يكون الجهازان مرتبطين بشبكة واحدة. • ثم طرح الكومبيوتر الشخصى فى الأسواق عام 1981 كان التوقع منذ البداية ألا يكتفى مشترى هذه الوسيلة الجديدة بالتعامل مع الشبكة للحصول على المعلومات، الإنسان بطبعه راغب فى التواصل مع الآخرين مُحب لفتح أبوابه لصداقات جديدة ومسارات فى الحياة لم يكن يعرفها أو يريد أن يوسع من خوضه فيها. • من هنا فكر صاحبنا فى توسيع دائرة البريد الإلكترونى للأفراد، بعد أن وظف لبنته الأولى فى خدمة مؤسسة حكومية.. وهداه تفكيره إلى دمج البرنامجين «SNDMSG»، الذى يكتب الرسائل و«CYPNET» الذى يقوم بنقل الملفات من جهاز إلى آخر فى خطوة واحدة، خاصة أثناء ساعات العمل.. لكن التجربة كشفت عن حلقة ناقصة لابد من العثور عليها، لأن الرسائل التى تم تبادلها بين عدة أطراف بعد أن نجح «توملينسون» فى برمجة عملية الدمج لم تكن تحمل فى طياتها تعريفاً بالمرسل ولا من أين قام بإرسال رسالته! كانت تلك هى المعضلة التى توصل إليها صاحبنا فى منتصف عام 1982 بعد أشهر معدودة من طرح أول جيل من أجيال الكومبيوتر الشخصى حيث أصبحت شبكة «أربانت» تتعامل مع أكثر من 15 جهاز كومبيوتر موزعة فى أماكن متفرقة من الولاياتالمتحدة ، وذلك عن طريق استخدام الرمز «@» الذى مكنه من الجمع بين اسم المرسل وموقعه ضمن شبكة التواصل.. وجاء اختياره هذا اضطراريا، حيث إن جميع أحرف الأبجدية الأوروبية تحمل رموزا ليس من بينها المعنى الذى يعكسه هذا الرمز وهو «at» الذى قصد صاحبنا من ورائه أن يحدد المكان الذى صدرت منه الرسالة.. لذلك بادر بإرسال رسالة كانت تتشكل من مجموعة أحرف تم اختيارها بطريقة عشوائية «QWERTYIOP» من أحد أجهزة الشركة إلى آخر تجمع بينهما شبكة «أربانت». • ووصلت الرسالة زيادة فى التأكيد، أرسل صاحبنا رسالته إلى مساعده الأول.. ولما وصلت بعث بها إلى واحد من زملائه.. وبعد دورة عددية مركبة لتبادل الرسالة والتهنئة عليها اكتسحت الحروف العشوائية أجهزة الكومبيوتر على مستوى شركة «B.B.N.» ومنها تنوعت الرسائل بين الشركة ووزارة الدفاع.. فى غضون عدة أسابيع أضحت وسيلة البريد الإلكترونى التى يتوسطها رمز «@» هى الأشهر والأوسع والأسرع لأنها لا تتطلب تواجد الطرف المستقبل فى نهاية الخط كما هو الأمر فى حالة التواصل بين شخصين عبر الهاتف أو التلغراف! سهلت الوسيلة طوفاناً من التواصل على مستوى الجامعات الأمريكية ومراكز بحوثها المتخصصة.. بعدها بأشهر قليلة اكتسحت العالم شرقه وغربه، دون أن يفكر صاحبنا فى تسجيلها باسمه أو أن يترك مكانه فى الشركة التى يعمل بها منذ سنوات طوال. تلقف القائمون على موقع «هوت ميل» «Hotmail» التابع لشركة «ميكروسوفت» الفكرة وطوروا الوسيلة الجديدة وقدموها كخدمة «مجانية» للمشتركين معهم بعد أن اقتنعوا بجدية البحوث التى أكدت أن البريد الإلكترونى هو «جن المستقبل» الذى لا يبارى. • هذا وما زال صاحبنا يعمل فى مجال تطوير البرمجيات ذات العلاقة بالتجارة عبر الشبكة العنكبوتية لجعل طرفيها أكثر أمناً. •