فى إطار تدهور مؤسسات النشر الحكومية والمفترض أنها حاضنة المبدعين والثقافة الحقيقية التى ترعى المواهب.. يلجأ المبدعون إلى دور النشر الخاصة التى تستغل تلك الظروف لصالحها استغلالا للكُتَّاب. هجر العديد من الكتاب مؤسسات النشر الحكومية واتجهوا إلى دور النشر الخاصة التى عملت على جذبهم من خلال تقديم خدمة جيدة للكتاب والكاتب فلم يجدوا فى دور الحكومة سوى الانتظار لسنوات وسوء المعاملة وبالنهاية كتاب ردىء. رغم ذلك دور النشر الخاصة أعطت فرص النشر لمن لا يستحق مقابل النقود. بين تدهور المؤسسات الحكومية واستغلال دور النشر الخاصة، كانت تلك هى آراء الكتاب. • منطق السوق يقول الشاعر عبد الرحيم طايع: الوضع دائما أشد تعقيدا، حتى فى دوائر كمثل دائرة طباعة الإبداع ونشره وتوزيعه، المؤسسة الثقافية غارقة فى أزماتها المالية ومشكلاتها الروتينية المعروفة، كما أنها تتعامل بصورتى المنح والمنع البائستين، من يناله الرضا ممنوح ومن يقع عليه السخط ممنوع والأسباب دائما تافهة! دور النشر الخاصة انتشرت فى الآونة الأخيرة، ومن الاختزال المهين اتهامها بالسعى إلى الكسب فقط، فبعض القائمين عليها مثقفون معتبرون يعلمون أن الردىء سيحسب عليهم، كما أن الجيد محسوب لهم، ولا يشاركون فى ملء الساحة ركاكة وزيفا بالأساس. بعضها يسقط طبعا فى شرك تحصيل المال، وليس مهما أى شىء بعد ذلك، بل يعتبر نفسه «شاطر» بمنطق السوق كلما حصل على إقبال أكبر، مهما يكن المقبلون عليه ضعاف المستوى، لكن الردىء موفور بالمناسبة فى السلاسل الحكومية كما بدور النشر الخاصة، فالمجاملة أيضا مفسدة كبرى، تعدل الرغبة فى المال وحده! المبدعون يضطرون إلى الحكومة لفراغ جيوبهم، واضطرارهم إليها وانتظارهم الطويل فى طابورها الذى لا ينتهى. ربما يقترض المبدع للحاق بطابور النشر الخاص القصير المنظم، ليضمن أن كتابه سيصدر فى موعده، ويضمن توزيعا لائقا له فى المكتبات الكبرى والمنتديات الثقافية، بالإضافة إلى ضمان سُنَّة التوقيع التى صارت من السُّنن المؤكدة لدور النشر الخاصة مما يروج للمطبوع واسم الكاتب! لا خطة واضحة للدور الحكومية المؤسساتية، ولا هدف واضحاً من وراء عملية النشر أصلا، ولا ملامح دقيقة للموضوع كله. الأمر أشبه بحرب يدخلها صاحب الكتاب، راغبا فى طبعه.. المساوئ متساوية تقريبا فى النهاية بين الحكومى والخاص والأشياء الجيدة أيضا.. والمبدع الحقيقى لسان حاله دائما: بناقص.. لن أقف فى طوابير أشد بؤسا من طوابير الخبز، ولا أريد اعترافا بى من أحد، وسأتصرف لإخراج كتابى للنور. دائرة قلقة مكلفة ماديا ومعنويا، والعجيب أننا فى النهاية بإزاء سوق تزخر بالجديد بين الممتاز والمتوسط وما دون ذلك! • معوقات بينما أضاف الشاعر ناصر دويدار: أنا كمبدع قبل أن أكون صاحب دار نشر نشرت على صفحتى على الفيس كان من الممكن أن أفتح دكان فول وفلافل لو كنت عاوز أكسب أو محل كشرى، لكن زى ما بكتب قصيدة جيدة بعمل كتاب جيد، والدليل على ذلك أنا أصدرت روايتين لتوأمتين عندهما 13 سنة وكتابا للأطفال لشاب بلا مؤهل دراسى وديوان شعر لطالب فى الثانوية العامة واسألوهم أنا خدت منهم كام؟..المشكلة فى السبوبة اللى عاملينها أصحاب دور النشر. ويقول الكاتب الروائى والقاص سمير الفيل: بعد الانتهاء من نصوصه الإبداعية، يجد الكاتب نفسه فى مواجهة مشكلة تسويق أعماله، والحقيقة أن نظرة تاريخية للأمور تجعلنا نعتقد أن الأجهزة الحكومية كان عليها الدور الأكبر فى تحقيق مسألة النشر بما تضمنه من توزيع جيد على المكتبات، ورواج لاسم الكاتب، ومكافأة مضمونة له. وبعد سلسلة من التحولات أصبح النشر عبر المؤسسات الحكومية لا يفيد كثيرا لعدة أسباب من أهمها: تأخر النشر لفترات طويلة، والرقابة المشددة المسبقة على المخطوطات، وتكديس الكتب المنشورة فى المخازن، وربما أضف إلى ذلك الإخراج العادى للكتاب مع عدم الاهتمام بالتصحيح والمراجعة. من أجل تلك المعوقات انفتح الباب واسعا أمام دور النشر للقيام بدور موازٍ للخروج من المأزق مع وجود هامش من الربح قد يزيد أو يقل طبقا لبراعة مسئول دار النشر. إن أكبر المشاكل التى تعترض تجربة دور النشر تتلخص فى قلة عدد الكتب المطبوعة، والمغالاة فى أسعار النشر، وعدم وجود عقود لها شروط واضحة، ناهيك عن عدم الالتزام بالمواعيد المتفق عليها. صحيح أن هناك دور نشر خاصة قد تخطت تلك المعوقات واستطاعت أن تقدم كتبا جيدة مع الالتزام بحقوق الكاتب، ولكن هذا الأمر يتم غالبا مع الكتاب المعروفين، أما الكتاب الشبان فأمامهم نفس المشاكل التقليدية. • دكاكين البقالين كما يرى الروائى سمير المنزلاوى أن مؤسسات النشر الحكومية تحولت إلى دكاكين يديرها مسئولون تيبست مفاصلهم وتثلجت ضمائرهم، فهم يتحركون بأسلوب البقالين، تدفعهم المصلحة والمنفعة فى المقام الأول، هذه المنفعة قد تتدنى فتصير سعارا جنسيا، يلهث وراء الجميلات، بلا أى مضمون حقيقى. وتنزوى المواهب أمام التجاهل والرفض والبرود، حتى تموت بلا رثاء. فيما يترعرع السوقة والتافهون، وتنتشر أعمالهم الرديئة، كأن يدا شيطانية ترعاهم، وتصر على تحطيم المشهد الثقافى كله، بدفع هذه النماذج وجعلها عنوانا لإبداع مصر. تضخمت بمضى الوقت أجهزة النشر الرسمية، وتوحشت بتبادل الخبرات والغنائم، فنبتت لها أذرع إعلامية وأمنية أيضا، أما إذا اتجه المبدع بعد يأسه إلى دور النشر الخاصة، فسيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، لأن الناشر الخاص تاجر فى المقام الأول، وإن تخفى بعضهم تحت ثياب الفن، تصير الأعمال السطحية الحافلة بالإبهار هى الصنف الرئيسى على موائدهم، يقدمونها بدأب، ويروجون لها فى الصحافة والتلفزة والشوارع ومواقع التواصل الاجتماعى، بما يصل إلى حالة اختطاف للعقل، وتضليل متعمد يجذب القروش من الجيوب، وتكون الكارثة. عندما يصطدم القارئ البرىء بالحقيقة العارية، فيجد نفسه فى مواجهة أعمال هابطة،. حتى الجوائز الطنانة، تمولها هذه الدور أو على الأقل تشتبك مع القائمين عليها فى علاقات عمل، ومن ثم تتبع هذه الجوائز رغبات دور النشر، لكى تتم المهزلة وتحبك المؤامرة، فلا يسمح لأى حر بالهمس! كيف وعلى رأسها أساتذة كبار؟ لكن الواقع أن عصر الكبار ولى، ولم يعد الربح المادى بعيدا عن أى مجال من مجالات حياتنا. ونظرة واحدة إلى الكم الهائل من إنتاج النشر الخاص، لا ترقى إلى مستوى لائق بالإبداع المصرى، إن مصر تمر بمحنة حقيقية، ولا مكان لأديب جاد، يحترم نفسه، مهما بلغ من الإجادة والإتقان، لأنه دائما يعيش بين نارين: إما السعى إلى مؤسسات حكومية أصابتها الشيخوخة والوهن، أو يقع فى حبائل النشر الخاص والمزاج المنحرف. • بدون رؤية يستطرد الشاعر أسامة الحداد ويقول: المؤسسة الثقافية لا تحتفى غالبا بالنصوص الجيدة نتيجة الفساد والمصالح الشخصية للمشرفين عليها مع غياب رؤية وخطة واضحة للنشر ومعايير يمكنها معها محاسبة القائمين على النشر، وذلك فضلا عن وجود بعض من يشرف على العديد من السلاسل ويواصل السماح بالسطحية ويعمد لمعاداة النصوص الجيدة ولا أريد الخوض فى تجارب شخصية تزعجنى، وما حدث من هيئة الكتاب بتجميد ديوانى الأول «شرور عادية» سنوات داخل هيئة الكتاب برغم صدور أوامر نشر عديدة لم تنفذ ولا قيامى بسحب ديوان (ميدان طلعت حرب) مؤخرا لعلمى أن الخلاف مع مدير السلسلة يعنى عدم النشر بطرقهم المعروفة والمبررات الجاهزة حول أزمة ورق أو إضراب عمال، وما حدث معى يحدث مع الكثير من المبدعين، فالمؤسسة تعمل لصالح النظام السياسى والأمنى ولا تريد إبداعا حقيقيا، وكذا فلا رقابة أو حساب داخل هيئات مترهلة وهشة تشكل تربة صالحة لنمو الفساد، وأما عن النشر الخاص فهو كارثى أيضا والمستفيد الأوحد هو الناشر، وهناك من يقوم بنشر أى كتابات لمن يدفع فغالبية دور النشر سماسرة ولا يهتمون بالمحتوى والقيمة بقدر الربح المادى، ومن دور النشر الخاصة من يطبع القليل من النسخ وأيضا الكتب لا تتاح أمام القارئ وينقطع التواصل بين الكتاب والمبدعين والمجتمع. وهو الهدف الرئيسى من النشر، وهذا إضافة لما يتكبده المبدع سواء فى العملية الإبداعية أو نفقات النشر فغالبا ما يدفع المبدع نسبة كبيرة من تكلفة الكتاب. إنها الحرب ضد الإبداع وضد الوعى والقيم الجمالية والإنسانية والتكريس للابتذال والغيبوبة، وهذا ليس ببعيد عن الغناء السوقى المثير للغرائز أو جوائز معرض الكتاب الأخير أو ثقافة الاحتفالات التى تهيمن على الملتقيات والفعاليات المسماة بالثقافية. وعن رأى الكاتبة الروائية نورهان صلاح تخلت الدولة عن دورها الرئيسى.. فى صنع الثقافة المصرية. إحدى القوى الناعمة. التى تؤهلنا لمكانة مرموقة بين الدول المتحضرة.. بتسييسها للأدباء حينا.. وتصنيفهم من حيث الانتماء الفكرى حينا آخر... فأسهمت بفاعلية فى نشر الفرقة.. والتطاحن على الكراسى بين الوسط الأدبى كله. لم يهرب منه أحد.. وانشغل الأدباء عن أعمالهم بالفوز بالانضمام للائتلافات والتربيطات والنقابات.. وأصبحت حالة المنتج الثقافى القومى مزرية. لا يقدم جديدا على الساحة الأدبية.. وإن قدم فهو يقدم المنتج المتفق صاحبه مع النظام.. أو مع الدولة بإدارتها الثقافية.. فأصبح النشر الثقافى محصورا على فئة معينة، وإن قرر كاتب نشر كتابه، داخل مؤسسات الدولة. لاقى الأمرين من البيروقراطية الإدارية .. وركن كتابه على رف الانتظار.. ينتظر الموافقات والتبريكات. .. وكان نجيب محفوظ أول من نشر كتبه.. فى دار خاصة.. وهى دار نشر لسعيد جودة السحار. ابن الكاتب المرموق عبد الحميد جودة السحار.. بعده فعلها يوسف إدريس.. وغيرهما من أدباء هذا الزمان.. فتخلف دور الدولة الحقيقى فى إنتاج أدب يعبر عن ذاتها، لتصدره إلى الخارج. • هجرة الإبداع وأشار الكاتب الروائى «محمد صالح البحر» إلى أنه كان من الطبيعى فى ظل البيروقراطية العتيدة التى تُدار بها المؤسسات الحكومية، وتتعامل من خلالها مع الإبداع والمبدعين، أن يهجرها الإبداع والمبدعون فى آن واحد، فليس من المقبول فى دولة من المفترض أنها تحبو نحو التقدم، أن تتعامل مع حملة شعاع التنوير فيها بمثل هذا الصلف والروتينية العقيمة، فالإبداع وليد لحظته، ويكتسب توهجه من لحظة ميلاده هذه، ولا يصح أن يُترك فى العراء لأعوام فى انتظار دوره لكى يظهر فى النور، ثم عندما يظهر يبدو بهذه الصورة المهترئة التى تبدو عليها الكتب الحكومية، من أخطاء إملائية وطباعية رغم وجود مصحح لغوى يتقاضى أجرا عن كل كتاب، وأغلفة لا تمت إلى الكتاب بصلة، وورق طباعة ردىء، وأسلوب توزيع يؤدى إلى تمزيق الكتب وإتلافها بأكثر مما يساعد على نشرها، ثم يُترك الكتاب بعد ذلك بلا أية متابعة إعلامية أو نقدية تساعد على رواجه، كما أن مسألة انتظار الدور لم تؤد إلى إحباط الكُتاب المجيدين فقط، بل ساوت بينهم وبين الذين مازالوا يخطون أولى خطواتهم باتجاه المعرفة الفنية، فما دمنا جميعا نقف فى الطابور فلا فرق إذن بيننا، لا تكمن المسألة فى التمييز بقدر ما ترتبط بالقيمة وتأصيل حركة الإبداع المصرى للسير فى سياق صحيح نحو التقدم والتطور، هجر الإبداع والمبدعون دور النشر الحكومية متحملين استغلال دور النشر الخاصة التى تتقاضى منهم مقابلا ماديا للنشر بدلا من إعطائهم حقوقهم فى نسبة التوزيع باعتبارهم أصحاب المنتَج الأصلى الذى يتم توزيعه، لكن الطباعة الفاخرة التى يظهر عليها الكتاب، وقدرة دور النشر الخاصة على الخروج إلى معارض الكتاب بالدول العربية خارج مصر، والاهتمام الإعلامى الذى يصاحب الكتاب إبان خروجه للنور والجوائز، كلها إغراءات تساعد على بروز العمل الإبداعى، واسم المبدع، بشكل لا يمكن قياسه بأى حال من الأحوال بالمقابل المادى الذى تأخذه دور النشر الخاصة من المؤلف.•