قبل أن تنطوى صفحة عام 2014 بقليل، انتقل إلى رحاب ربه الدكتور حامد عمار شيخ التربويين .. وقد توافق على هذه المشيخة، مجتمع العاملين فى حقل التربية والتعليم.. وبغياب هذا الرجل الهمام، فقدنا علما من أعلام الوطن، وحارسا من سدنة القيم والفضائل، وقدوة فى أداء الواجب والحس بالمسئولية العامة. وكان كذلك فى كل الميادين التى ضرب فيها بسهم، أستاذا فى الجامعة، وخبيرا فى الأممالمتحدة، ومشاركاً فى العمل الميدانى، وصاحب رأى فى مواجهة التحديات الكبيرة التى تواجهنا فى مجال التربية والتعليم. وكان كذلك طوال عمره المديد - 93 سنة- فلم يتخلف عن كتابة مقاله الأسبوعى فى صحيفة الأهرام، حتى أيامه الأخيرة.. وليس هذا مجال الحديث عما قدمه، وكتابه بيمينه حافل بالمآثر، كتبا وأبحاثا ومحاضرات وتقارير ومقالات رأى وتلاميذ. وكان باكورة إنتاجه كتاب (فى بناء البشر) داعيا إلى تنمية العناصر الإيجابية فى الشخصية المصرية التى تغلب عليها صفة الفهلوى. ورأى فيما بعد أن الصفة الأبرز أصبحت هى الهباش، كما كتب فى الثمانينيات، أما فى التسعينيات فرأى أنها صفة البلطجى. والمجال يتسع فقط، لتقديم لمحة عنه، كواحد من أعلام النخبة المصرية.. ومن حسن الحظ، أنه ترك لنا كتابا عن سيرته الذاتية. كتبه وهو شيخ فى الخامسة والثمانين، وجعل عنوانه (خطى اجتزناها بين الفقر والمصادفة إلى حرم الجامعة) كتبه فى شهرين (دون تدقيق أو تأنق) كما يقول (وفى سن وهن الفكر وتآكلت الذاكرة وتراخى الجهد).. ولكنه أفلح بهذه السيرة فى تقديم هدية ثمينة لنا، ستكون من السير الباقية، وتقرأها أجيال متتالية. والعنوان (بين الفقر والمصادفة) تعبير دقيق عن روح هذه المسيرة المجيدة، حتى تخرج فى الجامعة. وربما لا تكون معاناته من الفقر (الدكر) الذى كان يعانيه معظم أهل قريته آنذاك كما يسميه، فعلى الأقل كانوا هم فى أسرته يستخدمون الملعقة فى تناول الطعام. ولكن الفقر يتبدى بأنيابه القاطعة عندما تسعى أسرته إلى فتح أفق جديد لها، بإدخال أبنائها فى سلك التعليم الحديث، الذى وضعت أسسه على عهد محمد على. فتكاليف هذا التعليم، كانت فى استطاعة الأغنياء وحدهم. فهنا يظهر ضيق ذات اليد عقبة كأداء أمام أى خروج عن الطريق المرسوم للفلاحين والفقراء. ولكن فى حالته هو، تحالفت عوامل على انتشاله، أولها ذكاؤه الذى يجعله أول الناجحين. وحرص والده الذى حصل على قسط قليل من التعليم أن ينجو بأولاده عن طريق التعليم مرحلة بعد مرحلة، ثم مصادفة غير متوقعة، تكررت عدة مرات، ولكن ما كانت تكون ذات أثر لولا العاملين السابقين، ربما مصداقا للقول المأثور، إن الله يساعد الذين يساعدون أنفسهم. وسأكتفى بذكر أول المصادفات. وهو فى سن السابعة تعلم فى المدرسة الإلزامية بقرية سلوا، يزور والده المدرسة ليطمئن على مستواه، ويقابله الأستاذ جلال مدرس الحساب، الذى يثنى على الطفل واجتهاده، ويقول له إن المرحلة الإلزامية لا تكفى، وإن الأفضل له إلحاقه بالمدرسة الابتدائية فى مدينة إدفو، لتؤهله لمتابعة الدراسة حتى الجامعة. • إدفو إدفو هذه، وهى على بعد كيلومترات، تبدو له حلما بعيد التحقق، أين يقيم ومن أين التكاليف، وكيف يدبر المصاريف. والمصادفة العجيبة، أن الأستاذ جلال يعرض عليه بأريحية أن يقيم مع أسرته فى إدفو، ويعيش بينهم، أما المدرسة فالمجانية يكفلها تفوقه بعد تقديم شهادة فقر.. وظل يتمتع بالمجانية، طوال دراسته حتى تخرج، يكفلها تفوقه وشهادة الفقر. وكانت إدفو بالنسبة له أول نقلة فى حياته، وأول صدمة حضارية، حيث يفاجأ بأن البيت فيه حنفية ينزل منها الماء ودورة مياه داخل البيت. وحين انتقل إلى أسوان لاستكمال المرحلة الابتدائية، وسوهاج لإنهاء المرحلة الثانوية، والقاهرة لدخول الجامعة، كلية الآداب قسم تاريخ سنة 1936 كانت كل منها تشكل نقلة فى حياته، تحمل نفس الهموم والصعوبات، ثم تنفرج بمصادفة ولكنها فى كل مرة تحمله إلى أفق أرحب.. وفى كل منعطف من هذه المنعطفات، لا يفارقه ضيق ذات اليد، ورثاثة ملابسه، حتى نهاية المرحلة الجامعية. • الجامعة وبعدها ويتنفس الصعداء لأول مرة، عندما يتخرج سنة 1941 حاصلا على درجة الليسانس الممتازة، وبعدها دبلوم معهد التربية، ليستطيع الحصول على وظيفة مدرس، وبالفعل يتم تعيينه مدرسا فى قنا الابتدائية ويقبض أول مرتب له (13.5) جنيه حسب كادر الشهادة الجامعية : وضعت رزمة النقود فى جيبى، دون أن أعدها، رغم إلحاح الموظف المسئول، وأحسست مع هذا المبلغ أننى أصبحت شخصا آخر مستقلا قادرا على شراء ما أحتاجه وما أبتغيه. ولكن تقدر ثقل وطأة الفقر عليه، وهو يجاهد لينجح ويتفوق، فإنه كان عليه وهو يستعد لدخول كلية الآداب، أن يدفع القسط الأول أولا، ثم يسترده بعد حصوله على المجانية، وهو عشرون جنيها. ولم يكن هناك طريق غير أن تبيع أمه كردانها الذهبى. وحين يحلل فيما بعد مغزى هذه المصادفات يكتب: (وأخيرا تنطق صور مرآتى، بأن الفقر حالة لا يلام إلا من كان السبب فيها، والحظ إنما يشبع حين لا يكون فى المجتمع منطق معلوم أو قانون يراعى أو عدل يوفر الطمأنينة والتوقع).. وما أبعد المسافة بين جامعة القاهرة كما عايشها فى الثلاثنيات، وبين جامعات اليوم. ومن الطبيعى أن تكون سنوات جامعة لندن، هى التى صنعته، ليس فقط بالأساتذة والمنهج والوسط كله، ولكن بآفاق أخرى تعرض لها بالتفصيل.. وكما أنبأتك فإنى لن أعرض لجهوده فى حقل التربية والتعليم، وقد أشار تلاميذه بعد وفاته بدقة واعتزاز. وقرأت معك لمحات من سيرة حياته، التى رأيت فيها نموذجا لكتابة السيرة فى سن متقدم، يستصفى فيها صاحبها رحيق حياته، وما بقى على لسانه وفى قلبه كما أحيت ما غاب من الذاكرة تماما، عن الحياة فى جنوب الصعيد، فى تلك الأيام التى لم تعد فى ذاكرة أحد أنا نسيت تماما أكلة (الحريرة) التى كانت من المباهج يوم تقديمها، وهى ليست إلا دقيق ذرة وملح وقليل من اللبن. وقد نقلت أكثر من صفحة، عما تناثر فى أرجاء كتابه، من أبيات شعر وأقوال وعبارات سمعها أو قرأها ولم تغادر ذاكرته طوال هذا العمر. وسأكتفى من هذه الصفحات ببعض أمثلة : أولها دعاء والدته له كاشفة رأسها متجهة إلى السماء : (يا حامد يا وليد نزهة، ربنا يعلى مقامك ويوثق حزامك، وينصرك على مين يعاديك). وربما يكون هذا دعاء كل أمهات الصعيد. كن اشتراكيا فى داخلك وارستقراطيا فى مظهرك- الزعيم الاشتراكى الإنجليزى «آثلى». (من لا يحب نفسه لا يستطيع أن يحب غيره ..أريك فروم). (لا فضيلة فى تواضع الضعفاء.. العقاد). (من جد وجد ومن زرع حصد). ورغم أنها كانت مقررة علينا منذ بدايات المدرسة، فإنها تأتى فى كتابه برنين مختلف، لأنه يقول أنها كانت بوصلته طوال حياته. يرحمه الله ويعوض الوطن فيه خيرا. •