أشهد أننى وغيرى من زملائى والأساتذة الأفاضل لم يكن متاحا لنا اختيار رئيسنا فى العمل التحريرى وقد كان الاختيار من فوق ولا يعلمه سوى علام الغيوب فقد كان ولابد أن ترضى أولا جهات غير صحفية عن رجل يدير عملا هو فى صميمه صحفى أولا وأخيرا ولكن من أغرب ما أنتج هذا الاختيار الفوقى أن جعل الطريق مفروشا بالورود والإشارة خضراء والبساط الأحمر ممدودا لمرور الرئيس إلى حيث بلاط صاحبة الجلالة فى منصبها الأكثر رقيا وتميزا.. وصحيح اعتبر البعض أن هذه الطريقة فى اختيار رئيس التحرير طريقة ديكتاتورية لا أخلاقية ولا تتفق مع الأيام الديمقراطية السعيدة التى نحياها هذه الأيام.. والحق أقول لحضراتكم أن الطريقة الفوقية الديكتاتورية كانت أصلح ألف مرة وأكيد أفيد كثيرا من الطرق التى أحدثتها ثورتنا المباركة التى لا نعرف لها زعيما ولم تنجب رمزا ولم يظهر لها رأس حتى هذه اللحظة وقد أثمرت الطريقة القديمة عن مجىء أستاذى وتاج راسى وصاحب الفضل الأول على جيلى وأجيال أخرى سبقتنا ولحقتنا إنه المربى الفاضل والرئيس الوالد بمعنى الكلمة لويس جريس وهو أول رئيس تحرير لا يسعى إلى الكتابة بشكل أسبوعى كما أنه لا يشخط ولا ينطر على الفاضية والمليانة وهو يسعده كثيرا أن يقدم أصحاب الأقلام الجديدة ويبروزهم فى أفضل صورة ويفتح أمامهم الصفحات بشرط أن يكونوا من أصحاب المواهب.. ولويس جريس يعلم تماما ويفرز بدقة أصحاب الموهبة من أصحاب الوهم ومع ذلك فإنه يمنح الفرص متساوية ويدرك أن الصنف الأخير نفسه قصير سرعان ما سوف يشعر بخيبته ويجرجر أذياله ويمضى بعيدا عن الركب وهذا الرئيس العجيب حول محبوبتنا «صباح الخير» إلى مصطبة هو كبيرها يجمع الكل فى حجرته ويترك للصغير قبل الكبير حرية الكلام فى كل الأمور التى تخص «صباح الخير» المجلة وكيفية تطويرها ودوره هو شخصيا فى هذه العملية وإسهامه فيها وكان لويس جريس يعشق اللمة ويحب الكلام مع الناس فكان يتكلم كثيرا ويحكى لنا حكايات الأقدمين وهى حكايات ليست أشبه بحكايات ميكى ماوس كل شهودها يرقدون تحت التراب ولكن حكاية لويس جريس أبطالها كانوا على قيد الحياة لذلك فإن المصداقية موجودة وسلامة القصد متوفرة وآه لو أن الأستاذ لويس جريس أدرك أهمية أن يحول هذه الحكايات من كلمات ضاعت فى الفضاء إلى كلمات مكتوبة على الورق كنا ساعتها سنعثر على كنز يروى للأجيال القادمة نوادر الزمان الجميل بين فرسان «صباح الخير» و«روزاليوسف» الأوائل.. هذا الطرح الذى لم يتوفر ولن يتوفر بعد ذلك على الإطلاق كان نبتا شيطانيا عظيم الموهبة ومكتمل التوهج سعيد الحظ انفتحت أمامه أبواب المجد وكان يستحقها، أخذ فرصة كاملة كان ينبغى لمثله أن يمتلكها، بلغ قمة المجد والشهرة وهو بالتأكيد أهل لها.. ولكن عيب الأستاذ لويس أنه زاهد فى دنيا الصحافة قانع بما بلغه من مكان اكتفى بما سبق وقدم من إنتاج صحفى سواء على مستوى رئاسة التحرير أو ككاتب صحفى أمضى عمره بأكمله يكتب ل«صباح الخير» بل وفوق ذلك فهو أكثر الذين تولوا هذا المنصب فيها ولمرات متعددة ومن هذا الرجل تعلمت قيما ومثلا عليا يجب على الصحفى أن يأخذ بها ويضعها نصب عينيه وهو يكتب، لم يكن لويس جريس تصادميا أو عنيفا فى نقده يحفظ مقامات الناس وهو يستخدم أرق الألفاظ وأعذب الكلمات حتى فى توجيه لوم أو عتاب ولذلك فهو لم يكوّن «عداوات» ولم يتسبب فى مشكلات ولم يغضب أى مسئول ولم يخسر أى فنان ولم يكن يسمح باستخدام هذه المطبوعة التى ليس لها مثيل فى الصحافة العربية.. فى تصفية المشاكل أو الخلافات الشخصية وكان حريصا على شعور الآخرين وهو يمسك بشعرة معاوية بشكل جيد للغاية فإذا أرخوها شدها وإذا شدوها أرخاها فلا تنقطع أبدا معه كان هناك نخبة من الأصدقاء بعضهم ارتفع مقامه فى عالم الصحافة وبعضهم بلغ منصبا رفيعا فيها والكل تعلم من لويس جريس أشياء بالتأكيد إذا لم يصادفه الحظ الحسن ما كان له أن يتلقاها من غيره.. فى غرفة السكرتارية الفنية كان هناك العزيز الغالى فوزى الهوارى والزميل الكبير محمد بغدادى والسيدات الفضليات كاميليا عتريس ومديحة فهمى رحمها الله وولد صغير عرفناه باسم عز أصبح اليوم أحد الخبراء فى الإخراج الفنى ورسام كاريكاتير له وزنه هو الزميل محمد عزالدين وأيضا كان هناك رشاد كامل المتحفز دائما اليقظ دوما الذى لا تفوته معلومة أو خبر أو مقال أو تحقيق إلا وقام بأرشفته لوقت عوزة وأخيرا كان معنا فى نفس الغرفة الصديق الذى بدأ معى خطواتنا الأولى فى بلاط صاحبة الجلالة محمد عبدالنور وكنت أحيانا وأنا أرقبه أندهش وأقول له لماذا لم يعمل مدرسا إلزاميا بدلا من عمله فى الصحافة.. فى هذه الغرفة سهرنا أياما بلياليها وصححنا عشرات ومئات آلاف المقالات والموضوعات واكتشفنا أسرار المهنة من هذه الحجرة الصغيرة عرفت كيف يمكن أن تكتب صفحة فى المجلة دون أن تتجاوز عدد الكلمات المطلوبة وإذا طلب منى صحفتان أو أكثر فإننى أصبحت أعلم الموازين والمقادير أهم ما تعلمته فى غرفة السكرتارية أننى كنت أقرأ وبحرص شديد أعمال وكتابات الكبار وإن شئت الدقة كنت أدرسها ووضعت يدى على مفاتيح شخصية كل كاتب لماذا مفيد فوزى هو الأكثر إشعاعا وكيف أمكن لمنير عامر أن يصنع من الفسيخ شربات ولماذا لا تقرأ لفلان الفلانى حتى لو كتب المجلة من الجلدة للجلدة.. كانت كل الموضوعات والتقارير والتحقيقات والمقالات تصب فى هذه الغرفة ومهمة مراجعتها كانت موكلة لشخصى الضعيف ولزميل العمر محمد عبدالنور، منحنى أستاذى لويس جريس الثقة الكاملة فى أن أحذف ما أشاء من أى مقال أو موضوع أو تحقيق دون الرجوع إليه وأطلق علىّ بعض الزملاء.. لقب.. الرقيب.. وأطلق علىّ أستاذى مفيد فوزى لقب.. عين الصقر واليوم وأنا أستعيد هذه الذكريات أذكر بالخير كل أساتذتى الأفاضل الأجلاء الذين لن يجود بهم الزمان لويس جريس ومفيد فوزى ورءوف توفيق والثلاثة من أجمل كتاب مصر وكلهم أقباط ومع ذلك فقد علمونا وأفادونا وتركوا بصماتهم فى حياتنا ولم يفرقوا على الإطلاق بين زملاء لنا من الأقباط.. بل إننى أستطيع أن أقول وأنا مرتاح البال ومطمئن الضمير أن زملاء أقباطا قد عانوا اضطهادا فى عصور الرؤساء الأقباط بينما سنحت لنا الفرصة الذهبية كما لا يمكن أن تسنح لأحد من قبل أو بعد.
أساتذتى الكبار سنا ومقاما.. ونحن قد خضنا تجربة تراجع اختيار رئيس للجمهورية فى ثانى تجاربنا الديمقراطية.. تذكرت بالخير أيام الديكتاتورية والرجل الواحد.. والوان.. مان.. شو.. فى هذا العصر كان هناك تجويد فى كل الأمور وعلى رأسها عملية اختيار رئيس التحرير وأقسم بالله العظيم لو عاد بنا الزمان.. ما اخترنا سواكم.. أستاذنا الأكبر صاحب الأيادى البيضاء على الجميع لويس جريس كل العرفان والاعتراف بالجميل ننحنى لك تقديرا لرحلة العطاء النبيل التى بدأتها قبل منتصف القرن الماضى وأدعو لك بالشفاء لتسعدنا بحكاوى الزمن الجميل.
أستاذى مفيد فوزى الدائم اليقظة.. القادر على إدهاشنا وإسعادنا كنت بالنسبة لنا كما كان سقراط فى أهله باعثا على الحيوية دافعا على النشاط محفزا على الإبداع فى عصرك كنا نشعر بالفخار لأننا نعمل معك اكتسبنا منك بعضا من الشهرة وبعضا من التألق وبعضا من التميز الذى صحب أسلوبك فى الكتابة فأصبح ماركة مسجلة باسمك فأنت يا سيدى تستطيع أن تكتب فى أى مطبوعة فى العالم فيقرأ لك الصغير والكبير ويجمع كل من قرأ أن هذا الكلام ليس إلا من بنات أفكارك وحدك ولا أحد سواك حتى لو لم تضع اسمك فالكلمات تنطق بصياغتك لها وكأنها مخلوقات تنبئ عن خالقها!!
أما أنت يا آخر سلسلة الكبار الذين أسعدنا الزمن بالعمل إلى جانبهم صاحب الأسلوب الرشيق والقلم النزيه.. أستاذى رءوف توفيق منك تعلمت الحروف الأولى فى عالم الصحافة ومن علمنى حرفا.. صرت له عبدًا.. فما بالك بمن تعلمت على يديه الحروف كلها.. ولأنه لا يصح إلا الصحيح فاسمحوا لى أن أحييكم تحية التلميذ إلى أساتذة كرام لم يضنوا بعلم أو جهد أو وقت ساهمتم جميعا فى أن تظل صباح الخير مجلة القلوب الشابة والعقول المتحررة.. وفرتم لنا أجواء جعلتنا جميعا أسرة واحدة من أول عم حسين الساعى الأكبر الجميل رحمه الله مرورا بكل البسطاء والطيبين الذين لم نشعر يوما ما بأى فارق يباعدنا.. بل كانت أسباب التلاقى عظيمة أذابت الكل فى واحد.
بفضلكم وبفضل الجيل السابق ستبقى صباح الخير وتقوى.. لكم عظيم الاحترام والتقدير.