من بين عشرات الأفلام التى عرضت خلال الدورة السابعة والستين من مهرجان «كان» السينمائى الدولى، والتى عقدت من 41 وحتى 52 مايو الماضى فى مدينة «كان» المطلة على شاطئ الريفيرا الشهير، اخترت لقراء «صباح الخير» عددا من روائع هذه الدورة التى تميزت بمشاركة فنية ثقيلة من بعض كبار مخرجى العالم مثل الفرنسى جان لوك جودار والإنجليزيين كين لوش ومايك لى والكنديين أتوم إيجويان وديفيد كروننبرج والروسى أندرية زيجانتسيف وغيرهم. اتسمت معظم الأفلام المشاركة فى المسابقات الكبرى، المسابقة الرسمية، نظرة ما، أسبوع المخرجين، أسبوع النقاد، بالميل إلى الموضوعات الإنسانية البسيطة أو الأفلام التى تتناول حياة شخصيات فنية راحلة، وخلا المهرجان تقريبا من تلك الأفلام المثيرة للجدل على عكس سنوات كثيرة ماضية.
∎ «يومان وليلة».. الأجمل محروم من الجوائز!
أجمل فيلم فى مهرجان «كان» هو «يومان وليلة» للأخوين جان- بيير ولوك داردان... والجمال هنا ينبع من شيئن: أولا الجمال الفنى بالمقاييس النقدية وثانيا المتعة الجمالية التى يولدها الفيلم. هناك أفلام جيدة فنيا ولكنها قد تكون ثقيلة على المشاهدين، وهناك أفلام ممتعة للمشاهدين ولكنها لا تستطيع الصمود أمام النظرة التحليلية النقدية. «يومان وليلة» من الأفلام النادرة التى تتحقق فيها الجودة الفنية والمتعة الجماهيرية. لست أعلم دوافع لجنة التحكيم التى استبعدت الفيلم من الجوائز، ولكن الأخوين داردان كانا يستحقان السعفة الذهبية بالتأكيد. وعلى الأقل كان الفيلم يستحق جائزتى السيناريو للأخوين داردان والتمثيل لبطلته ماريون كوتيار.
كوتيار التى عرفها جمهور السينما فى العالم من خلال فيلم «الحياة وردية» الذى حصلت عنه على الأوسكار تقدم هنا تمثيلا بديعا لا أعلم كيف يمكن لأى لجنة فى العالم أن تتجاهله، وسوف تكشف الشهور القادمة عن مدى الخطأ الذى وقعت فيه اللجنة عندما تكتسح كوتيار كل جوائز التمثيل فى أوروبا وأمريكا.
المشكلة الوحيدة التى ربما تكون واجهت لجنة التحكيم فيما يتعلق بفيلم «يومان وليلة» هى أن داردان حصلا على السعفة الذهبية من قبل مرتين عن فيلميهما «روزيتا» و«الابن»، كما حصلا من مهرجان «كان» أيضا على جوائز أفضل سيناريو وتمثيل وإخراج عن أفلام أخرى. ربما قال أعضاء اللجنة لنفسهم: داردان أصبحا أكبر من الجوائز، ولعل الأفضل أن نمنحها لصناع أفلام آخرين يستفيدون منها أكثر. هذا الكلام تردد فى أروقة المهرجان قبل إعلان الجوائز، ولكن لم يقنعنى. ليس من حق اللجنة أن تنظر إلى نتائج سنوات سابقة أو أن تضع فى ذهنها اعتبارات خارج الأفلام التى تقوم بتحكيمها. ولو كانت إدارة المهرجان ترى أن حصول داردان على سعفة ثالثة أمر غير مستحب فقد كان ينبغى عليها أن ترفض إدراج الفيلم فى المسابقة أو أن تصدر قاعدة جديدة تقول أن المخرج الحاصل على السعفة مرتين لا يحق له التنافس عليها مجددا.
مع ذلك فقد كان من الممكن تجنب كل هذا اللغط لو أن اللجنة منحت فيلم «يومان وليلة» جائزتى السيناريو والتمثيل، أو حتى التمثيل فقط، خاصة أن كوتيار تستحق الجائزة عن جدارة، والأكثر من ذلك أنها لم تحصل عليها من قبل بالرغم من مشاركتها فى المهرجان سابقا بأكثر من دور رائع!
يدور «يومان وليلة» حول امرأة عاملة فى أحد المصانع الصغيرة، اسمها ساندرا، زوجة وأم لطفلين يتم فصلها من عملها بناء على تصويت جرى بين زملائها تم فيه تخييرهم بين الحصول على العلاوة التى يطالبون بها وبين فصل زميلتهم. ساندرا، الخارجة لتوها من اكتئاب شديد، توشك على الانهيار مجددا، وتتماسك فقط بفضل مساندة إحدى زميلاتها بالمصنع التى تصر على اصطحابها للمدير وإقناعه بإعادة التصويت مجددا بعد نهاية العطلة الأسبوعية. ساندرا تتماسك أيضا بفضل مساندة زوجها، وهو طباخ بسيط فى كافيتريا لا يكفى راتبه لدفع إيجار الشقة وبقية تكاليف المعيشة. الزوج يشجعها على الذهاب لزيارة زملائها فى بيوتهم ومحاولة إقناعهم بالتصويت لأجلها. وتدخل فى سباق مع الزمن ومقاومة الإحساس بالهوان ومواجهة شبح الاكتئاب للحصول على تسعة على الأقل من أصوات زملائها الستة عشر خلال يومين ونصف يوم.
خلال هذه الزيارات يستعرض الأخوان داردان نماذج بشرية متباينة عرقيا ودينيا وأخلاقيا. كل واحد، أو واحدة، منهم له دوافعه التى نفهمها حتى لو كنا نرفض رد فعلهم على طلب ساندرا.
أهم ما يمكن ملاحظته فى هذا الفيلم ليس ما يعرضه الأخوان داردان على الشاشة ولكن ما ينأيان بنفسهما عن عرضه. ساندرا تعرض طلبها بدون الدخول فى مناقشات سياسية أو أخلاقية من أى نوع، وبدون أدنى محاولة لابتزاز عواطف زملائها، أو مشاهدى الفيلم. تعاطف المشاهد هنا يأتى من تأمل حياة الشخصيات وواقعهم وليس من كلماتهم. فى أحد المشاهد مثلا هناك شاب صوت فى المرة الأولى ضد ساندرا ولكنه يشعر بالذنب الشديد لأنها طالما ساعدته فى بداية عمله بالمصنع، وهو يبكى عندما تذهب إليه ولكن المشهد مقدم بشكل كوميدى خفيف يحول دون وقوع المشاهد فى فخ الانفعال الزائد الذى يمكن أن يفسد الحالة الأساسية التى يريد صناع الفيلم إيصالها. التعاطف هنا يشمل معظم الشخصيات، فيما عدا نوع واحد من البشر هو هؤلاء الذين يفقدهم الجشع وحب المال أى شعور إنسانى أو مبدأ أخلاقى. ينتمى إلى هؤلاء واحد من زملاء ساندرا هو أصغرهم سنا، شاب عنيف لا يفكر سوى فى كسب المال وشق طريقه العملى إلى الأمام ولو فوق جثث الجميع، وآخر ينتمى لنفس العمر والنوعية هو زوج لإحدى زميلاتها يحاول إجبار زوجته على التصويت ضد ساندرا، وهو ما يؤدى إلى نشوب مشاجرة بين الاثنين تنتهى بانفصالهما.. هذه النوعية ينتمى إليها أيضا رئيس الوردية المباشر فى العمل الذى اعتاد على تدبير المكائد والكذب، والذى يتبين أنه المدبر الحقيقى لفكرة التخلص من ساندرا. فيما عدا هؤلاء الثلاثة يتعاطف الفيلم مع الجميع، خاصة المهاجرين والفقراء الذين يعانون من ظروف شديدة السوء. مع ذلك فإن أكثر شخصية نبيلة فى هذا الفيلم هو شاب أسود يعمل فى المصنع بشكل مؤقت يهدده رئيس الوردية وزملاؤه بعدم تجديد عقده إذا قام بالتصويت لصالح ساندرا، ورغم أنه أكثر الجميع احتياجا فإنه يصوت لصالحها مخاطرا بتعريض نفسه للعقاب والتشرد.
فى النهاية تنقسم أصوات الزملاء إلى ثمانية مع التضحية بعلاوتهم وثمانية مع التضحية بساندرا، وهو ما يعنى خسارتها للتصويت، وعملها. العالم لا يغلب عليه الخير، ولكن لا يغلب عليه الشر أيضا، ومن يحدد ما إذا كان العالم يستحق الكفاح والنضال أم لا يستحق الحياة فيه من الأصل هو موقفك أنت واستعدادك الشخصى ودرجة تمتعك بالإنسانية والأخلاق. المدير الأعلى لساندرا، الذى يعجب بقدرتها على إقناع نصف زملائها بالتنازل عن علاوتهم من أجل زميلتهم يدعوها لمكتبه ويخبرها بأنه ينوى تشغيلها فى أقرب فرصة قادمة، بالتخلص من أحد العاملين بعقود مؤقتة.. تصبح ساندرا فى الموقف نفسه الذى كان يعانيه زملاؤها: حياة أسرتها مهددة بالفقر وخطر الطرد فى الشارع وكل المطلوب هو غض النظر عن تعرض إنسان آخر لهذا الظلم الاجتماعى بدلا منها...ضع نفسك مكانها، فماذا أنت فاعل؟؟.