«عالم السيرك القومى» تستوقفنى دائما هذه الجملة وبالأخص كلمة «عالم».. هل لأنه عالم بالفعل أم أنها كلمة مجازية لها مدلول آخر؟!.. لم أنتظر لحظة لأفسر لنفسى معناها.. لأن فضولى أخذنى إلى هناك.. لأقتحم هذا العالم وأدخل فى كواليسه لأرى ما وراءه.. بالفعل ذهبت إلى هناك ورأيت عالم الحيوانات والأكروبات وعالم البلياتشو والألعاب السحرية.. ولكن ليست مثل الصورة التى كنت أرسمها فى خيالى أو بمعنى أدق كنت أشاهدها فى الأفلام.. فقد صدمنى الواقع كثيرا، حيث سمعت وشاهدت أشياء لم تكن فى الحسبان بالمرة.
فى البداية استقبلنا عامل الأمن وكشفنا عن هويتنا وبعدها اصطحبنا إلى مدربة الأسود والنمور «أنوسة كوتة».. وفى طريقنا إليها مررنا على ساحة كبيرة بها أقفاص الأسود والنمور وإصطبل الخيول وأقفاص الكلاب.. ورأيت رجل البلياتشو يقف بجوار أقفاص الأسود فى حيرة يبحث عن مكان لنفسه ليتدرب على فقرته قبل عرضها للجمهور الذى ينتظره بالخارج.. وشباب يقفون على صناديق خشبية كبيرة ضعيفة وهشة مقلوبة على ظهرها بعضها فوق بعض، أحدهم ممسك فى يده عددا من الصولجانات يطايرهم فى الهواء بشكل «بهلوى» وآخرون يحملون بعضهم بشكل توازنى فى الهواء.. جذبنا هذا المنظر، وقمنا بتصويره على الفور.. لكن وجدنا رجل الأمن يمنعنا قائلا: «هذه الكواليس ممنوع تصويرها!!».. كواليس!!.. هل هذه هى الكواليس؟!
فالمكان أشبه بالفوضى، ملىء بالكراكيب، رائحة الحيوانات تغطى على نسمات الهواء التى تتطاير فى المكان المفتوح.. وزئير الأسود والنمور الذى يوقف دقات القلب ونظرتهم الغادرة التى تخترق قضبان القفص لتفترس كل من يعكر صفوهم.
فأين صالات التدريب التى كنت أتوقعها لهؤلاء المدربين واللاعبين .. فإن الوقوع على هذه الأرض الصلبة بمثابة الكسر أو الموت على الفور!
ومع ذلك، ورغم قلة الإمكانيات التى لاحظتها داخل السيرك والمعاناة الشديدة التى يعانيها، إلا أن هذا لا يعرقل العلاقات الإنسانية داخله .. فقد لمست روح المحبة والأخوة وخفة الظل التى تدور بين المدربين واللاعبين.. حتى العلاقة بين المدرب والحيوان فيها نوع من الاحترام والحب المتبادل.. فإن الحياة داخل السيرك ليست حياة فردية.. بل حياة عائلية مكتملة.. وهذه من أهم الأسباب التى تجعلهم متمسكين بهذا المكان الفقير.
وأثناء جولتنا وجدنا أنفسنا نقف أمام باب غرفة بسيط ليخبرنا رجل الأمن قائلا: «هذه غرفة أنوسة تنتظركم بالداخل».. لوهلة انتابنى شعور بالخوف وبدأت الهواجس تلعب دورها معى فى رسم الشخصية من المؤكد أنها ستكون شخصية حادة، عنيفة، جريئة، قوية البنيان، عصبية، لم تحصد من العلم ما يكفى.. وإذ فجأة أجد نفسى أقف أمام فتاة شديدة الجمال والرقة تستقبلنا بابتسامة بريئة فى غرفتها الصغيرة لتخبرنا أنها «أنوسة كوتة أصغر مدربة أسود ونمور فى مصر».. وعلى الفور انهارت الصورة التى كنت أرسمها فى خيالى وخاصة بعد حديثى معها.
«أنوسة» اسمها الحقيقى «محاسن» على اسم جدتها «محاسن الحلو».. حاصلة على ليسانس حقوق جامعة القاهرة ودبلومة قانون دولى ومستشار تحكيم دولى .. تنتمى «أنوسة» لأهم ثلاث عائلات فى السيرك عائلة الحلو وكوتة وعاكف.. تحدثت معها عن أوضاع السيرك القومى وأحواله.. وعلاقتها بالحيوانات المفترسة وكيفية التعامل معها.
∎ سألتها فى البداية: من أين أتت لك فكرة التعامل مع الأسود والنمور؟!
- قالت: الموضوع بالنسبة لى ليس فكرة، بل أكثر منه وراثة.. حيث أنتمى أنا وأخى لأهم ثلاث عائلات فى مصر.. التحقت بالعمل فى السيرك من سن 3 سنوات وها أنا الآن 26 سنة.. وكانت بدايتى مع الثعابين العاصرة والشامبانزى وعروض الخيول.. وبعدها تطور الأمر ودخلت عالم الأسود والنمور.. وكان أول ظهور لى مع الأسود باسم محاسن .. لكن سرعان ما غيرته ل«أنوسة» حتى لا آخذ شهرة جدتى وأحاول أن أثبت نفسى فى هذا المجال وأكمل مسيرة «محاسن الحلو».. وبعد ما أتقنت التعامل مع الأسود دخلت على عالم النمور ومنها على الأسود البيضاء والآن النمور البيضاء لكن لم يتم تدريبه حتى الآن .. كما أننى الوحيدة فى مصر التى تمتلك النمور البيضاء.
پ هل هناك فرق بين الأسد الأبيض والأسد العادى؟
- طبعا الأسود البيضاء أخطر من الأسود العادية لأنها تعتبر فصيلة نادرة.. وبالتالى تكون أكثر قوة وشراسة وعصبية جدا.. بالإضافة إلى أن المناخ فى مصر يختلف كثيرا عن أوروبا.. وهذا يجعله عرضه أكثر للعصبية و«مش طايق نفسه».
∎ ما أول درس تعلمته قبل دخولك القفص معهم؟
- هو عدم الخوف.. لأن الأسد يشعر بالأدرينالين قبل أن يفرز من جسم الإنسان، على عكس الكلب يشعر به بعد أن يفرزه الإنسان.. وذلك يدل على مدى قوة إحساس الأسد بفريسته.
∎ ما الذى يميزك فى عروضك عن باقى المدربين؟
- هو التنوع، بمعنى أننى أجمع أكبر عدد من التنوع أسود، نمور وأسود بيضاء فى عرض واحد بحيث يكون مليئا بأشياء كثيرة تبهر الجمهور.. ويكون هناك أيضا شكل جديد فى العرض غير المتعارف عليه فى العالم.. وهذا ما يجعلنى مختلفة عن غيرى.. ففى عروضى أعتمد على الشكل أولا، بمعنى أننى مدربة أسود ولا أمتلك أى نوع من القوة وأقدم عرضى بعصا واحدة.. ومن خلالها أجعل الأسد أو النمر يسمع كلامى.. ويصل فى النهاية من حيوان شرس لديه من القوة ما يكفى إلى حيوان مطيع يسمع كلام بنت.. على عكس والدى فهو يعتمد فى عروضه على الشراسة بينما أخى يعتمد على لوحة فنية بجانب الشراسة.
∎ كيف تتم السيطرة على الأسد وسط العرض فى حالة عدم الاستجابة لك؟
- الأسد حيوان متقلب المزاج.. وأنا مدركة هذا جيدا لأننى أتعامل مع حيوان مفترس شهادة ميلادة تقول ذلك.. وإذا حدث ذلك أثناء العرض لأننى تعرضت لذلك كثيرا.. أحاول السيطرة على الموقف بمعنى أقوم بتهدئته ولو لم يستجب لى أعطيه قطعة لحم وأتركه حتى يهدأ ولو رفض وزاد الموضوع عن حده يأخذ عقابا على الفور.. ومعاشرتى لها تجعلنى أشعر بما يضايقها.
∎ هل هناك فرق فى المعاملة بين الأسود والنمور؟
- النمور بطبيعتها أشرس من الأسود وأخف منها فى الحركة وغدارة.. فالأسد يهاجمك فى وشك لكن النمر ينتظر أن تعطى له ظهرك وقبل أن تغمض عينيك يكون هجم عليك.. ويظهر ذلك فى العروض فإن اهتمام النمور يكون أعلى بكثير من الأسود، كما أننى أحب عروض الإناث لأننى أراها أشيك وأحلى فى الحركة وفى عروضى أجمع الاثنين معا مما يعرضنى للخطر، لأنه من الممكن أن يحدث استلطاف بين أسدين.. وهذا ما حدث بالفعل مع والدى.. فكنا فى بداية فصل الربيع «حيث موسم التزاوج بالنسبة للأسود» وقام أسدان باستلطاف بعضهما وعندما أبعدهما والدى عن بعض هجما عليه على الفور.
∎ ماذا عن أحوال السيرك وأوضاعه الحالية؟
- السيرك أحواله مزرية للغاية.. فتوجد معاناة مادية كبيرة هنا، وأيضا معنوية.. الحالة النفسية للفنان سيئة للغاية وذلك يرجع إلى الحالة المادية المزرية.. فلدينا مشاكل كثيرة داخل السيرك سواء فى المادة أو فى المعدات.. وبالنسبة للحيوانات فهى قصة أخرى.. فلا يوجد اهتمام كافٍ باحتياجات الأسود والنمور والحيوانات عامة، مما يؤثر ذلك على الحالة المزاجية للحيوان ويعرض صاحبه للخطر.. فقد تحدثنا كثيرا مع الوزير من أجل الاهتمام بالسيرك وبالعاملين فيه وفى كل مرة يقول: لدينا خطط .. فكل ما تقدمه الوزارة لنا هو عقد تغذية للحيوانات، وهذا العقد لا يكفى بالمرة.. المفترض من خلال هذا العقد أن أقوم بتغذية الحيوانات، ويتضمن أيضا ملابس المدربين ومعدات السيرك ومصاريف العمال ونفايات الحيوانات والحديد الذى توضع فيه الحيوانات، كل هذا فى عقد واحد فقط!.. فهذا العقد لا يكفى طعام حيوان واحد.. فطعام الأسود أقوم بدفعه من جيبى الخاص.. وهذه من أكثر الأسباب التى تجعل فنان السيرك يعمل فى السيركات الخاصة، لأنه يرى فيها التقدير المادى والمعنوى.. فأنا أعمل فى سيركات أجنبية لأنها حقيقى تقدر فنان السيرك وتحترمه.. على عكس سيرك الدولة الذى يهين فنانه.. فنان السيرك حياته على «كف عفريت».. فأنا أعمل هنا فى السيرك مجرد دوبلير حتى يتعافى والدى ويسترد صحته ويعاود نشاطه من جديد وأعود أنا لعملى فى الخارج.. ففنان السيرك يتعامل مثل موظف الحكومة إذا حدث له أى مكروه يتعالج فى التأمين الصحى.. فمرتب الفنان يبدأ 180 جنيها وإن لم يكن أقل وبعد الحد الأدنى وصل 300 جنيه وهذا فى الشهر!
فكيف لسيرك كبير مثل سيرك الدولة لم يكن به خرطوم للمياه لاستخدامه فى المواقف الخطيرة، كالحرائق أو فى حالة هجوم الأسد على المدرب؟!.. وأيضا من ضمن إهمال الوزارة بنا.. عدم وجود شبكات أو «ترامبولين» داخل السير تؤمن حياة اللاعبين فى حالة سقوطه من على الحبل أو من على الطوق الهوائى خلال التدريب أو أثناء العرض.. فكثير من اللاعبين تعرضوا لإصابات خطيرة بسبب هذا الإهمال!.. ويرجع ذلك لعدم تقدير الدولة لحياة فنان السيرك!
ثم تضيف قائلة: إن تذكرة ال «فى آى بى» فى السيرك الإيطالى تصل إلى 180 جنيها، وهنا فى سيرك الدولة تصل إلى 30، لماذا لم تدعم الدولة ال 03 وتهتم بها حتى تعود عليها بمنفعة بعد ذلك؟! .. فالسيرك فى مصر مهضوم حقه .. فبداخله الكثير من المواهب المهدر حقها لأن الدولة تريد ذلك!.
∎ هل الأسد أثر فى شخصية أنوسة؟
- بالفعل الأسود هى أكثر الحيوانات التى أثرت فىّ.. فقد تعلمت منهما أشياء كثيرة جدا كالكرامة، عزة النفس وقوة الشخصية وأكون باردة بمعنى «متعصبش بسهولة».
وبعد انتهاء حديثى مع أنوسة.. دخلنا المسرح لكى نشاهد العروض التى يتم عرضها.. وكان اختيارا غير موفق بالمرة .. فحالته من الداخل أسوأ بكثير.. الكراسى التى كنا نجلس عليها مزرية للغاية وغير مريحة.. وجدران السيرك من الداخل متهالكة.. حتى الأرض التى يقف عليها اللاعبون والمدربون غير صالحة للوقوف عليها.. وعدد الجمهور يكاد يكون معدوما فكل شىء فى السيرك يصرخ بالتجديد والإصلاح!
فمن ضمن العروض التى شاهدناها فتاة تقوم بعمل حركات بهلوانية داخل طوق معلق فى الهواء.. يقف تحتها رجل يتحرك فى الاتجاهات التى تتحرك فيها الفتاة فى الهواء، رافعا يده لأعلى.. فى البداية لم أدرك جيدا لماذا يقف هذا الرجل بالشكل العشوائى أثناء العرض؟!
لكننى عرفت بعدها أن هذا الرجل هو والدها يقف دائما أسفلها فى كل العروض حتى يلتقطها فى حالة سقوطها من الطوق المعلق.. وغيرها من اللاعبين المعلقين فى الهواء ينتظرهم أصحابهم فى الأسفل ليلتقطوهم فى حالة فقدان توازنهم من الألعاب الهوائية.. لكن السؤال الأهم الآن هو: هل تم استبدال الشبكة أو الترامبولين بهؤلاء الأشخاص الذين يقفون على أرجلهم رافعين رءوسهم وأيديهم لأعلى أثناء العروض لمراقبة اللاعبين عند سقوطهم؟!.. أين الدولة والوزارة من ذلك؟!.. هل حياة فنان السيرك رخيصة لهذه الدرجة! كما تحدثنا أيضا مع أحمد يحيى لاعب البلانصات الهوائية ليروى لنا قصة حصوله على الميدالية الذهبية فى مهرجان كوريا الشمالية قائلاً:
عندما تم ترشيحى للمهرجان قمت على الفور بإعداد وتجهيز نفسى جيدا حتى أكون قد المسئولية التى وضعت فيها.. ولم تمدنا الدولة والوزارة بأجهزة أو معدات.. فكل الأجهزة التى سافرت بها من مالى الخاص حتى تصميم الملابس والإخراج وضبط الإضاءة والموسيقى كله على حسابى!!.. فلا يوجد أحد من مسئولى السيرك سواء فى الوزارة أو فى البيت الفنى ساعدنى بشىء.. العامل الأساسى الذى دفعنى لذلك هو تشريف بلدى مصر فى الخارج وأن أكون وجهة مشرفة له.
فهذا المهرجان شاركت فيه حولى 20 دولة على مستوى العالم فى كل أنواع الفنون.. لكن السيرك تحديدا كان مشاركاً ب 5 دول هى «كوريا والصين ومصر وأوكرانيا وتايلاند»، وتعتبر كوريا والصين هما القوتان العظميان فى عالم السيرك حيث كان كل منها مشاركاً ب «02 لاعباً» بينما مصر كانت مشاركة ب «3 لاعبين»، والفقرة التى شاركت بها فى المهرجان هى فقرة البلانصات الهوائية.. وهى عبارة عن ترابيزة قائمة على الأرض أقوم من خلالها بعمل حركات توازنية على يدى.. وهذه الفقرة حصل عليها رجل كورى على المركز الثانى فى مهرجان الربيع الماضى الذى عقد فى كوريا.. لذلك قررت أن أبتكر شكلاً جديداً فى الفقرة حتى أكون مميزاً عنه.. وبالفعل قمت بعمل هذه الفقرة الهوائية ولكن بدلا من أن تكون الترابيزة فى الأرض كانت فى الهواء.. فكنا معلقين نحن الاثنين فى الهواء. ومن ضمن اللفتات التى رفعت من روحنا المعنوية هو استقبال السفيرة المصرية لنا فى المطار وأخذ بعض الصور معنا.. فكان حضورها بمثابة الدفعة للأمام لبذل ما فى وسعنا حتى نرفع علم مصر فى السماء.. كما أنها حضرت يوم افتتاح المهرجان وأيضا اليوم النهائى لتوزيع الجوائز.. وبعد تسليم الجوائز وجدت مخرج العرض الكورى ورئيس لجنة التحكيم سعيداً جداً وقال لى كلمة مهمة: أنا سعيد جدا أنك حصلت على الجائزة، لأنك أول شخص يهزم روسيا والصين.. لأنهما دائماً مسيطرين على الجوائز وعلى مهرجانات العالم أيضا.. وهذا على عكس ما رأيناه فى بلادنا من عدم الاهتمام بنا.. فكنا كالأغراب فى مطار القاهرة لا يعرفنا أحد.. بل الإنجاز الوحيد الذى فعلوه معنا هو إرسال سيارة لتأخذنا من المطار.