البلد الذى دفع الشباب دماءهم وأرواحهم فداءً له لتحقيق العدالة الاجتماعية وإيجاد لقمة عيش نظيفة غير مغمسة بالذل والهوان والمطالبة بالحرية والعيش بشكل آدمى.
الدماء التى لم تتوقف عن النزف على مدار الثلاث سنوات الماضية وحتى الآن من جراء عمليات إرهابية قذرة وغياب للأمن يبُخل عليهم بإنارة لمبة على طريق مصر - الإسكندرية الصحراوى لكى يتلمسوا طريقهم..
حقيقة مؤلمة لن أقول إنى اكتشفتها لأن رخص الدم المصرى واضح وصريح ومعلن منذ سنوات طويلة ولكن أستطيع أن أقول أننى تأكدت بشكل قاطع مما لايدع مجالا للشك أو اختلاق الأعذار أو التسامح تحت أى ظرف أن الدماء التى روت ميادين مصر ذهبت دون عودة سدى، فمصر أم قاسية منزوعة القلب على أولادها لا تشفع معها دموع أو دماء أو توسلات ولا أى شىء، هى قررت أن تحدد النسل بطريقتها وتخف من الزيادة السكانية بأبشع الطرق.منذ عدة أيام قررت أنا وصديقتى أن نقضى اليوم من أوله فى الإسكندرية وربما تعتبر هذا المرة الأولى لى التى أسافر فيها بالسيارة للإسكندرية لأنى معتادة على السفر بالقطار، ولكن بعد تردى الحالة الأمنية للقطارات وتعطلها وقطع الطرق أصبح الأمر غير مضمون ففكرنا فى السفر بالسيارة والرجوع مبكرا ويكفينا تناول الغداء على شاطئ البحر والتجول لبضع ساعات.. قضينا بضع ساعات فى الإسكندرية وعزمنا على العودة فى الساعة السابعة والنصف وبدأنا التحرك.. وما أن بدأنا فى اتخاذ الطريق حتى حل الظلام الدامس.
أعمدة إنارة كثيرة بطول الطريق وعلى الجانبين لكنها جميعا مطفأة تماما لاتعمل منها أى لمبة حتى ولو عن طريق الخطأ وكأنها شواهد قبور لاتبعث أى إحساس بالأمان تشير إلى وجود عشرات الجثث تحتها.
الطريق من بعد كارتة الإسكندرية وحتى الوصول للقاهرة كان جزءا طويلا من فيلم رعب أمريكى حاصل على تقييم خمس نجوم فإخراجه متقن ولامجال من الفرار من الموت عليه. إصلاحات ومدقات ورتش ورمال وطوب ملقاة فى نهر الطريق ... ظلام لاترى منه أى شىء على الطريق وعدة مرات فلتنا من الاصطدام بالمخلفات بالصدفة البحتة لأن حتى رؤية أكوام الطوب أو الرمال فى الظلام قبل الاصطدام بها بعدة أمتار قد تكون شيئا خياليا.
وجدت صديقتى تعتدل فى جلستها وتقترب بشكل كبير من الزجاج الأمامى للسيارة كنت أتخيلها ستصعد فوق التابلوه فالرؤية كانت شبه منعدمة ونحن نحاول أن نتحسس الطريق معا ومن يرى شيئا على الطريق يخبر الآخر تفاديا للاصطدام.. ومن شدة الظلام وغياب اللافتات تاهت صديقتى ودخلنا «مدخل خاطئ» اكتشفنا بعد ربع محور التعمير المؤدى لمطار برج العرب وأننا فقدنا الطريق الصحيح للعودة للقاهرة وقتها كانت الساعة تقترب من الثامنة وقد بدأنا نتوتر ويصاحبنا القلق لأننا لانجد أى إشارة تدلنا على العودة ولايقف أحد لنجدتنا أو حتى نتمكن من الحصول على أى إجابة.
فالمساعدة على الطريق هى درب من دروب الخيال فالجميع يسير فى رهبة وتوجس وريبة ولا أحد يساعد أحدا أو يقف ليدله، فما كان منا إلا أننا سرنا مسافة طويلة لما يقرب من نصف ساعة للبحث عن أى كائن لسؤاله حتى توصلنا فى النهاية لمخرج بعد الحصول على إجابات متقطعة مبتورة على الطريق من سائقى المقطورات والميكروباصات.
فالغرباء على الدائرى منقسمون إما سكارى وحشاشون لايدلونك على شىء لكن تخترق أعينهم وسفالتهم خصوصيتك أو هم متسولون يحاولون ان يخرجوا منك بأى مصلحة بأى نقود. أو بلطجية عليك أن تتحدث معهم من خلف زجاج السيارة لأنك لو فتحت سنتيمترات من الزجاج قد يكون تصرفهم متهورا لا تحمد عقباه.
استطعنا أن نصل للطريق الصحراوى وتنفسنا الصعداء رغم أن الظلام كان لايزال ناشرا كآبته ولكنا اتفقنا أن نسير على سرعة بسيطة وأن نقرأ الفاتحة والشهادتين وأن نسلم أمرنا لله ولأن صديقتى هى التى كانت تقود السيارة فقد أخبرتها أننى لن أنام وسأتابع معها الطريق وأن وجدت أى إشغالات تمكنت من رؤيتها بمسافة مناسبة سوف أخبرها لتحاشيها وإن لم أتمكن فقد نفذت كلمة الله.. وأكملنا طريقا بقليل من الكلام فأعصابنا مشدودة وعقلنا متيقظ وروحنا حزينة على البلد الذى حكم علينا وعلى أولادنا أن نقضى فيه ما تبقى من عمرنا.
وبعد واحة عمر قطع الطريق فجأة وكنا قد اعتقدنا أننا اقتربنا من الوصول، ولكن الإصلاحات قطعت الطريق من منتصفه وبعرض الطريق لامكان للسير حتى لسيارة واحدة.
قطعوا الطريق فجأة دون أى إخطار أو تنبيه أو لافتة تقول لنا ماذا نفعل السيارات تشير لنا أن نرجع كيف نرجع (طريق سفر طويل) عكسى وفى مواجهة السيارات، لكنى شعرت أنى وصديقتى الوحيدتان من عالم آخر وكأننا كائنات غريبة تستحق الرثاء والمشاهدة فبحثنا عن نظام معين للسير فى طريق صحيح... سؤالى كان مضحكا ومثيرا للاستغراب الجميع يمشى كما يحلو له والتريلات بالعشرات تسير فى مواجهتك لا أحد يبحث عن لفة للدوران ولأننا أصررنا على النظام أنا وصديقتى أو دعونى أقول ليس إصرارا على نظام لأننا فى لحظة أدركنا معا أن هذا البلد لا يستحق أى نظام وأن هذه كلمة خيالية بل الحقيقة أننا لم نملك الجرأة للسير عكس الاتجاه وبسرعة تتجاوز ال08 كيلو مترا ولا نعتقد أن دماءنا ودماء الآخرين أرخص من لمبة على الطريق أو لافتة تحترمنا وتخبرنا فى أى اتجاه نسير: أوقفنا السيارة على جانب الطريق الصحراوى وأوقفنا السيارات لنسألها الكل يقول إجابات مختلفة وينصحوننا (بخطف الطريق عكسى) ربما يتحدثون عن أكثر ما يزيد على 10 أو 51 كيلو بما يسمونه «خطف سريع».
فى النهاية اكتشفنا أننا كان من المفترض أن ندخل فى أول يمين بعد قطع الطريق ولكن المسئولين عن تصليح الطريق يعلمون أن المصريين بهلوانات بسبع أراوح سينجون من الموت بأى شكل فلاداعى من تعليق أى لافتة أو إشارة أو حتى سهم.
.. بعد التحويلة التى كان من المقرر أن نسير فيها لنصعد الطريق من جديد نزلنا فى طريق يسمونه الطريق البطىء وسرنا فى نفس الظلام المخيف وبنفس انعدام الرؤية وبنفس اتفاقنا المسبق متوقعين بين كل لحظة وأخرى تريلة أو مقطورة تسير بالعكس يترنح سائقها من الحشيش والخمور فيصطدم بنا وننقلب على الطريق وتشتعل السيارة أو ينقطع الطريق فجأة أو نصطدم ببقايا سور أو كومة رمل.
إلى أن وصلنا للكيلو 72 بعد مناورات بيننا وبين المقطورات والتى وإن دلت على شىء تدل على فساد رجال الأعمال وأصحاب المصالح بتركها تتراقص وتتمايل فى الطريق وتزهق عشرات الأرواح دون أى رادع ودون رغبة حقيقية فى تقنين وضعها ومنع تجديد الترخيص .
شىء آخر لافت للنظر وهو وجود بائعى الشوم والعصيان والأسلحة البيضاء على جانبى الطريق يزودون المسافرين بها لضمان حماية أنفسهم خلال الرحلة لأن الطريق غير آمن ويمكن لأى أحد أن يوقفك، خاصة أن التحويلات والإصلاحات والظلام وغياب الأمن يجعلك فريسة سهلة مغرية فيجب أن تؤمن نفسك بشراء العصى والشوم وتكون على أتم استعداد إذا هاجمك البلطجية الموجودون على الطريق أن تتصرف بلياقة بدنية وثبات انفعالى دماء المصريين رخيصة والحكومة والمسئولون جبناء فالموضوع لم يعد فوضى أو جهلا أو غباء بل أصبح خسة وندالة واستهانة بآلاف الأرواح المسافرة التى يحيطها الموت من كل اتجاه، الموت على الإسكندرية الصحراوى ليس قضاء وقدرا بل هو قتل مع سبق الإصرار والترصد فكل مافى الطريق وقاحة وخسة وإهمال متعمد جبان وفساد.
ودولة تحرم شعبها من السفر على طريق آمن دفعوا من عرقهم ودمائهم ضرائب لإنشائه وبنائه وإصلاحه وصيانته هى دولة فقدت حضن أولادها للأبد..وفقدت احترام الشعوب الأخرى وفقدت موارد دخلها وسياحتها فأى سائح يأمن على نفسه للسفر على طريق .. للموت .. أى سائح سوف يأتى وعليه أن يحمل العصى والشوم لمواجهة البلطجية على الطريق .. أنا أتحدث هنا عن طريق مصر الإسكندرية مسافة تقترب من الثلاث ساعات فقط وكل من المدينتين كبيرتان وعاصمتان السفر بينهما أمر طبيعى وشائع فكيف هو الحال فى الطريق مابين القاهرة والصعيد أو الشرقية أو غيرها من المحافظات البعيدة مفتقدة الخدمات. كيف بعد هذه الرحلة الطويلة الشاقة بعد الظلام والتوهان والبلطجية والسرقات والسير عكس الاتجاه وبين المقطورات وسخافات الحشاشين والسكارى كل ما تجده فى نهاية الرحلة هو ضابط يوقفك ويأخذ منك قيمة مخالفة الرادار وكأن كل ما مضى لا يعنيه وليس مسئولا عنه أنت فقط المسئول إذا تجاوزت السرعة بعدة كيلومترات هربا وخوفا وفرارًا من المصائب والكوارث التى على الطريق.. فى النهاية لن أقول سوى..نسأل الله حسن الخاتمة فى هذا البلد.