ليست هناك بحوث واستطلاعات، يمكن الركون إليها، والتعويل على نتائجها فى تحديد نسبة الشباب، الذى شارك فى الاستفتاء على دستور 2014، والذين قاطعوا الاستفتاء من بينهم، والأسباب التى تقف وراء مواقفهم. وذلك رغم جهود جادة ومتواصلة، تبذلها بعض المراكز المعنية، لاكتساب تجربة وخبرة بثقافة المجتمع، فيما يتعلق باستطلاعات الرأى، ومنها مركز «ابن خلدون» و«بصيرة». وألفت نظر القارئ هنا لتصريحات الدكتور ماجد عثمان مدير مركز بصيرة للاستطلاعات، أنه بناء على استطلاع المركز، فإن نسبة الشباب الذين شاركوا فى الاستفتاء على الدستور، ليست قليلة أو محدودة كما يشاع، وإذا كانت نسبة الشباب المقيد فى الجداول هى 37٪ فإن الذين شاركوا من بينهم تصل إلى الربع، ومعنى هذا أن عددهم يصل إلى خمسة ملايين. ربما!
لأن الملاحظة المباشرة، ومحاولات تقصى بعض المحللين الثقات، بطرقهم الخاصة، والحوارات مع عينات الشباب المحيطين بنا، والاستماع إلى خطب وأحاديث وكتابات النشطاء من شباب الثورة، تقول بغير ذلك؛ تقول إن موقفهم كان المقاطعة.
وإذا ا عتمدنا النتيجة التى يقول بها استطلاع «بصيرة» فإن هؤلاء الشباب، قد يكونون ليسوا من فريق «الثوار» أو جناح النشطاء، وإنما هم من جماهير الشباب، الذين استفتوا قلوبهم، واعتمدوا على نبض إحساسهم.
وإذا صح هذا الكلام، فإنه يطمئنا على قلب كتلة الشباب، وأنه بخير.
وهذا لايعنى الاستخفاف بالكتلة، التى قاطعت الاستفتاء، أو إقصائها، والترفع عن مناقشة الأسباب التى يسوقونها لموقفهم.
وليس سرا أو رجما بالغيب، أن كتلة المقاطعين للاستفتاء، فى مجملهم من الشباب الذين أسهموا فى أحداث 52 يناير، وظلوا فى «الميدان» طيلة الوقت، ولم يكونوا بعيدين عن المعارك الدائرة، وكانوا وسط الغبار المتصاعد.
وإذا تركنا كتلة شباب الإخوان والتيار الإسلامى جانبا، لأنهم مرتبطون عضويا بجسم الجماعة ويأتمرون بأمر القيادة، ومنخرطون فى الحرب المعلنة بينهم وبين الدولة، ويتحركون بإيمان دينى، عن حقهم فى الشرعية واستعادة الحكم.
فإن كتلة الثوار الشباب لايسايرونهم أو يرون أنهم على حق فى هذا ولكنهم فى نهاية المطاف، يقدمون لهم خدمة جليلة، ويصبون المياه فى طاحونتهم، كما سأبين بعد قليل.
ويجب أن اعترف أن الحوار مع هؤلاء الشباب، بالنسبة لمراقب شيخ مثلى أمر فى غاية الصعوبة، وغير محتمل.
ومع هذا فإن الحديث إليهم، والاستماع إلى وجهات نظرهم، هى مسئولية لايجب التنصل منها، مهما تمسكوا بالصلف والعجرفة والاستخفاف بمن سبقهم.
وهذا الحوار هو أحد الوسائل للتأثير على مواقفهم، ولفت نظرهم على ما يغيب عنهم، لأنهم لابد يسعون للتعلم من أخطائهم بأنفسهم، والتجربة العملية لابد أن تصقل خبراتهم.
وإننا بالفعل نعلق عليهم أملا كبيرا.
وحين قلت أن الحوار معهم أمرا ليس سهلا، وأحيانا مضيعة للوقت، فذلك لأن صفة عامة تسم سلوك أغلبهم، هى الغرور غير المبرر، والامتلاء بالثقة التى تميز دائما غير الناضجين.
∎ نحن مختلفون
وحين تدارسوا الطرق التى ساروا عليها منذ 25 يناير، بمناسبة مرور ثلاث سنوات على موجة 25 يناير، لم أعجب حين يكررون مثل هذه العبارة «خطيئتنا الكبرى لا الخيانة، فلسنا كمن سبقونا، لذلك فشباب الإخوان غير وشباب الناصريين غير، وشباب اليسار غير، وشباب الليبراليين غير».
إن محاولة فهم هذا الاقتباس من أدبياتهم، معبر فى وصف البوصلة التى تحركهم والتوصل إلى الأسباب التى دفعت كتلة الشباب غير القليلة التى قاطعت الاستفتاء، تبدأ بفهم فكرهم والفلسفة التى توجههم.
فهم بهذه المقاطعة، يسهمون ليس فى تحقيق الأهداف المشتركة، لهذه الهبات والموجات الشعبية، ولكن يعملون على إطالة أمد الفوضى، وتعميق الاستقطاب.
وكما ترى من السطور السابقة، فها هم يضيفون انقساما جديدا، يتمثل فى صراع الأجيال، حيث يعتزون بتفردهم، وأنهم غير من سبقهم وأفضل ممن سبقهم، وهم وحدهم الذين يملكون الحقيقة المطلقة.
وهذا الإحساس بالتفرد يجعلهم أقرب إلى بعضهم منهم حتى إلى المنابع الفكرية التى يرفعون شعاراتها أحيانا.
ولم أعجب عندما أرى مجموعة من بينهم، مثل «الاشتراكيين الثوريين» ترفع راية الماركسية، تقف كتفا لكتف، إلى جانب جماعة الإخوان المسلمين فى جهل كامل بالآفاق، المفترض أن كلا منهم يتطلع إليها.
ورغم أن شباب الثوار، لاتجمعهم خيمة واحدة، وإنما يفترقون شيعا وأحزابا وأفرادا، كما كتب واحد من نشطائهم بمناسبة مرور ثلاث سنوات على 25 يناير:
«لم نتفق على رؤية للغد، تخاصمنا وتفرقنا، وفى كل اجتماعاتنا تعلو المصالح الضيقة، والعقائدية السخيفة، والخلافات الشخصية التافهة».
رغم هذا فإن أفكارا معينة، تشد من لحمتهم، فى مقدمتها عبادة الميدان، وطقوس الحشد والمظاهرات وتقديس استمرار الثورة، وتثبيت لحظات معينة، والطواف حولها دون أى محاولة لتجاوزها، «الميدان تملكنا والثورة احتكرت أحلامنا».
الحديث عن الثورة والميدان «الأيام الثمانية عشر، تحولت عندهم إلى نوع من الصوفية والتمتمة الدينية، التى لايربطها رابط بأصول السياسة العملية وبناء المؤسسات والتضلع فى فقه الأولويات».
∎ مع الدكتور مرسى
وحين نناقش اليوم، موقفهم من دستور 2014 ومقاطعتهم له، وأثر هذه المقاطعة على العملية الدائرة، التى تهدف إلى استعادة الدولة، وترميم الخسائر المدمرة، التى خلفها حكم الإخوان المسلمين، فإننا نستعيد موقفهم من الاختيار الصعب الذى فرض علينا فى 2012، بين رئيس إخوانى هو الدكتور محمد مرسى ورئيس يرفع بوضوح شعار الدولة المدنية هو الفريق أحمد شفيق، فوقفت غالبيتهم الساحقة مع محمد مرسى، سواء بتأييد واضح أو بالمقاطعة، بحجة انتماء شفيق إلى النظام السابق، أما محمد مرسى فينتمى إلى الميدان والثورة!!
ومن حسن الحظ أن كتلة كبيرة من المصريين وقفت وراء أحمد شفيق، يدفعها وعى سليم، أن معيار الاختيار، هو بين الميدان والثورة وغموض التحرك الذى فى قلبه جماعة الإخوان بكل تراثها ومناوراتها وبين الإبقاء على الدولة المدنية والتقاط الأنفاس فى فترة انتقالية، توضع فيها الأسس لتطور ديمقراطى.
وكان المعسكران متقاربين.
وفاز مرشح الدولة الدينية بفارق ليس كبيرا.
ومعظم المراقبين - والأجانب بالذات - يرون أن الفارق الذى نجح به ممثل الدولة الدينية، يعود بالكامل إلى الثوار.
إن الفجوة التى تفصلهم عمن سبقوهم، والإحساس الذى يتملكهم أنهم شىء وآخر غيرهم، أى أنهم أفضل وأقدر وأكثر إيمانا، هو الذى جعلهم لايستمعون إلى خبرة عملية طويلة، فحاملو الفكر الدينى لايؤمنون بالديمقراطية أو المساواة بين المواطنين أو مسئولية الإنسان عن مصيره وحياته وبناء وطنه.
ولم يلبث الرئيس المنتخب طويلا عندما صرح علنا أن إرادة الله هى التى وضعته فى هذا المكان العالى.
وحين نستعيد هذا الموقف، لا لشىء إلا لأن الصراع لايزال دائرا، والقضية مفتوحة.
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
وها هم أبناؤنا الشباب يكررون نفس الخطأ، ويقفون فى وجه التوافق العام، على السير فى طريق، لايتيح الفرصة للتيار الدينى، ليقفز إلى سدة السلطة مرة أخرى.
وذلك بتمهيد الأرض لتطور ديمقراطى، سيأخذ بعض الوقت.
وهذا الوقت مرهون باستعادة هيبة الدولة، وهزيمة الإرهاب.
ومقاومة الإرهاب وتجريده من أسلحته أمر غير الحوار حول دور ومكان للتيار الدينى طالما التزم بالقانون.
ومن المحتمل جدا أن تفتح خريطة الطريق الباب لهذه المرحلة.
ولكن شبابنا يعود مرة أخرى، ليعيد نفس الخطأ ويتردد أمام الاختيار ويعلن المقاطعة ويتخلى عن الوقوف فى طابور الاستفتاء على الدستور، وبالتالى الخطوات التالية.
∎ أسباب الشباب
وهنا يهمني أن اعترف أن العريضة التى يقدمها الشباب لأسباب مقاطعته، تستحق التأمل والاهتمام.
فهو يقول إنه يؤيد ما حدث فى 30 يونيو من هبة شعبية قوية وواسعة، ولكنه يتردد إزاء ما حدث بعد ذلك، والذى يتمثل فى خارطة الطريق.
لأنه لاينبئ بمسيرة ديمقراطية صاعدة.
وجاءت الشواهد كثيرة فى رأيهم تزيد من هواجسهم، بما حملته من استعادة أو أجهزة الأمنية لأنيابها، وإطلال رموز النظام السابق، وبروز شبح القيود على الحريات.
والأدهى والأمر فى رأيهم، التفويض على بياض للفريق السيسى، و«إغلاق الملعب» عليه بتعبيرهم، بما يشير إلى أننا نستبدل استبداداً باستبداد، ويذكرنا بما حدث بالضبط، بعد 23 يوليو 25، على أيام آبائهم وأجدادهم والذى انتهى بنكسة 5 يونيو.
ولكن يا أبنائى وبناتى
وإن كنت أعرف أنكم لاتحبون هذه اللهجة الأبوية.
وتذكروننى بالشاب الصينى، أثناء ثورة الشاب، فى ميدان تيان مين آمين، عندما ذهب إليهم زعيم الحزب ليحاورهم وخاطبهم، أنا زى أبوكم.
فرد عليه أحدهم على الفور: ولكن أنت مش أبويا.
ومع هذا، فيا أبنائى وبناتى:
إن معظم الذين يؤيدون خريطة المستقبل والفريق السيسى، لا تغيب عنهم هذه المخاوف.
ولكنهم يرون أن المهمة الأكثر إلحاحا اليوم، هى القضاء على الإرهاب الأعمى، الذى لايرعى إلا ولا ذمة.
وتفعيل ما جاء فى الدستور من مواد، تحرم المتاجرة بالدين واستغلاله فى السياسة.
إن الإرهاب واستغلال الدين هو الخطر الأكبر، وهو لايزال ماثلا، بل يمكن أن يعود.
والحل هو فى فترة انتقالية، تضع الأسس لحكم مدنى ديمقراطية حقيقى.
إن ما حدث بعد 25 يناير، هو مؤامرة استغلت الأوضاع المعقدة وضعف خبرة الشباب لاختطاف الوطن ومستقبله، واستغلت رومانسية الشباب وضعف الخبرة السياسة للمجلس العسكرى لاختطاف السلطة.
وها قد نجحنا فى استعادة الزمام، وليس أمامنا إلا استكمال الطريق.
إن مقاطعة المسيرة ليست موقفا صائبا، ولكن الانخراط فى البناء ومعرفة الأخطاء والتوافق على الأهداف والعمل على خلق مؤسسات سياسية والتحليل الدقيق لمشكلاتنا الأساسية وأسلوب مواجهتها هو الطريق لإنقاذ الوطن، وليس إقامة ميدان دائم للحشد والهتاف بالسقوط!