كنت أجلس مع مجموعة من الأصدقاء يتحدثون، ألتفت برأسى يمينا ويسارا تبعا للمتحدث كأنى فى مباراة كرة التنس، عندما انتهزت الفرصة لأتحدث خرج صوتى رفيعا كأنه ليس صوتى وأيقنت أننى أعانى من عدم التعبير عما أريد قوله فى هذه الحلقة الكلامية فخرج صوتى على ذلك النحو وأجلت الكلام! هذه المواصلات بين الناس المسماة بالكلمات ليست ما أقوله وما تقوله، هى أولا مواجهة ثم اندماج أو اختلاف. الكلمات مهما كانت قديمة فهى تتجدد فى كل فترة ينطق بها الإنسان، الكلمة أحيانا عملة زائفة أو عملة صعبة وأحيانا تكون مثل طوبة جارحة، أى أنها تسعد أو تشقى، هى التى تعبر عما فى نفوسنا فكيف يفهمنا الآخرون بدون هذه الكلمات؟ بعض الناس يتحدثون كثيرا ليس لأن لديهم أفكارا جيدة أو كلمات صادقة لكن لأن ألسنتهم تأكلهم ويملأون المكان الذى يوجدون فيه بالكلمات.
∎ أسواق الكلام
هذا عنوان لمقال للكاتب الصحفى والأديب «عبدالقادر حميدة» ضمن كتابه «أوراق بدون ترتيب فى الأدب والفن والحياة» وهذا جزء من مقاله المعبر:
«ضجيج الكلمات يذكرنا بسرادقات الأفراح المتجاورة والمآتم فى الميادين حين تصبح المناسبات الخاصة ذريعة لاستعراض الألسنة فى الكلام وياليت الكلام كله مما يضىء الشموع ولايطفئها ويزرع الأمل لا يقلعه ويأخذ بأيدينا إلى شواطئ العقل والأمان والتفاؤل والحلم لا يلقى بنا فى متاهات الذهول والخوف والتشاؤم واليأس»!!
ويتحدث برومانسيته الشعرية: «لم كل هذا الضجيج، يحرم به الزاعقون عصفورا من التسبيح بجمال هذا الكون البديع؟ ولمن إذن يتسلل القمر بحرير ضوئه الفضى الناعم والناس مضغوطون تحت رواسى من جبال الكلمات تثقل الكاهل وتصم الآذان وتحجر على خطى البصر والبصيرة»؟!
وإذا كان مقاله هذا من زمن فات فهو يعبر عن زمن حالى نعيش فيه. يقول «حميدة»:
«كلنا أصبحنا فلاسفة ومنظرين ومفكرين وقضاة وحكماء وأوصياء وحاملى شعارات نتجول ببضاعتنا فى أسواق البيع حيث أوكازيونات الكلام على أشدها والوسطاء كثر والطلب لاهث وفى السوق متسع لكل من تسول له شهوة الثرثرة أن يعتلى عرش المنابر الصباحية والمسائية وساحات الهواء»!
يحدثنا الكاتب حميدة عن وسائل الإعلام المختلفة المقروءة فى الصحف والمجلات والمسموعة فى الإذاعة والمشاهدة على شاشات التليفزيونات ويقول:
«إذا تساءلنا لمن تنهمر شلالات الكلام إلى حد الإغراق 24 ساعة يوميا؟!
أجاب بعض المتحذلقين وأدعياء العلم ببواطن الإعلام وشهوة المواطنين إلى المعرفة يقولون إن ما يصدر فى الصحف والدوريات فى العواصم العربية لايكفى مائة مليون عربى! وهذا معناه أن هؤلاء ليس من بينهم حسب الإحصاءات الرسمية بين الستين والسبعين مليونا من الأميين وأنصاف الأميين وإننا جميعا قراء وجهلة» بمعنى أن الكلام مهم ليفهم معظم الناس ما يدور فى الحياة!
∎ الكلام
عنوان حكاية من الأدب الشعبى الأفريقى حيث يتعلم الناس الحكمة بسرد الحكايات وهذه الحكاية عن ضرورة أن يتأكد الإنسان من أى كلام يقوله ويتحقق من صحته حتى لايسبب إزعاجا لآخر أو هلاكا لنفسه.. تقول الحكاية:
إن صيادا كان يسير على شاطئ البحر وشبكته على كتفه مرفوع الهامة واثقا من نفسه، صادف فى طريقه على الرمال المبللة قرب الشاطئ والطحالب الجافة جمجمة آدمية، توقف بالقرب منها وسألها ساخرا «أيتها الجمجمة المسكينة من أتى بك إلى هنا؟!» ثم ضحك فهو لا يأمل أى إجابة على سؤال غير أن الفكين الشاحبين انفرجا فى صرير مزعج وسمع هذا اللفظ «الكلام» قفز الصياد إلى الوراء وظل لحظة متربصا مثل حيوان مذعور. ظن أنه قد خدع بفعل هواء خبيث فاقترب بحذر من الجمجمة وكرر سؤاله بصوت مرتعش.. «أيتها الجمجمة المسكينة من أتى بك إلى هنا»؟! وأجابت الجمجمة هذه المرة بنبرة حزينة وبوضوح «الكلام».
أطلق الصياد صرخة رعب وفر هاربا كأن ألف شيطان يطاردونه.. عندما وصل إلى قريته توقف قليلا ليسترد أنفاسه.. لابد أن يحكى لناس قريته عن هذا الحدث الذى شاهده ثم فكر.. الحقيقة إنه لم يفكر.. جرى إلى كوخ ملك القرية.. «هكذا كانوا يسمون حاكم القرية بالملك».
وكان صاحب المقام الرفيع جالسا بجلال يتناول وجبته الصباحية الدسمة عندما دخل الصياد مسرعا بدون إذن الحارس وارتمى عند قدمى الملك وقال: أيها الملك هناك على الشاطئ وجدت جمجمة تتكلم وأردت أن تكون أول من يعلم ويشاهدها.. سأله الملك إذا كان سكرانا وضحك.. أنكر الصياد سُكْره وأكد على كلامه أنه قد شاهد منذ لحظات جمجمة تتكلم بوضوح مثل الأحياء.
قال الملك: أنا لا أصدق غير أنه من الممكن أن تكون صادقا، فإننى فى هذه الحال أريد أن أكون أول من يرى أو يسمع إلى هذا الجزء من الميت.. لكن أحذرك إذا كنت تسمح لنفسك عن غفلة أو.. عن مكر أن تقص على قصة سخيفة أيها الرجل التافه فإنك ستدفع رأسك ثمنا لهذا.. تلعثم الصياد وهو يقول صائحا إنه لا يخشى ثورة الملك لأنه يعلم جيدا أنه لا يكذب.. لعق الملك أصابعه وأخذ سيفه علقه فى حزامه ثم انطلق مع الصياد وكرشه متدل أمامه.. سارا على طول شاطئ البحر إلى أن أدركا مكان الطحالب حيث توجد الجمجمة.. انحنى الصياد فوقها.. مسح بعطف على جبهتها المحجرّة وقال: «أيتها الجمجمة ها هو أمامك ملك قريتنا تكرمى ورحبى به».
انتظر قليلا.. لا صوت يخرج من عظمتى الجمجمة. ركع الصياد على ركبتيه وخفق قلبه خوفا وسأل الجمجمة أن تشفق عليه وتتكلم: «أرجوك أخبريه بمن أتى بك إلى هذا المكان» ظلت صامة مثل كل الجماجم تحت الشمس المحرقة وسط الطحالب الجافة، والصياد يحاول ويرجوها أن تتكلم.. باختصار ظلت صامتة بعناد.. أما الملك الذى ضايقه إزعاجه من أجل لا شىء فعلت على وجهه نظرة احتقار وغيظ فاستل سيفه من غمده وقال للصياد «أيها الكاذب اللعين» وبلا تردد بضربة قوية أحدثت صفيرا فى الهواء من قوتها.. فصل رأس الصياد عن جسده.. وسار يؤنب نفسه لأنه استمع إلى كلام الصياد التافه، ترك طعامه ومشاغله الملكية وسار هذا المشوار.
وبينما الملك يبتعد فتحت الجمجمة فكيها أخيرا محدثة صريرا مزعجا وقالت لرأس الصياد الذى تدحرج على الرمل وجاء ليلتصق بخدها الأجوف «أيها الرأس المسكين.. من الذى أتى بك إلى هنا؟!» انفتح فم الصياد وخرج لسانه من بين أسنانه وأجابها «الكلام».
∎ يا ويل أمة تترك العمل وتنشغل بالكلام
هذه جملة مفيدة قرأتها فى حديث للدكتورة الأستاذة «آمنة نصير» أستاذة الفلسفة الإسلامية وقالت إنها تتمنى أن يكف الشعب المصرى عن القيل والقال وكثرة الكلام وأن يتجه إلى العمل الحقيقى الذى يدفع سفينة البلاد إلى الأمام، لأنه للأسف الشعب المصرى انشغل بالكلام وانصرف عن العمل ويا ويل أمة تترك العمل وتنشغل بالكلام.
∎ كلام فى عناصر الوطنية
كما كتبها الكاتب والفيلسوف «إبراهيم المصرى» الشعور بالوطنية هو شعور أبناء الوطن الواحد بثلاث عواطف.. العاطفة الأولى هى الشعور بتمجيد الوطن ممثلا فى أروع صفحات ماضيه. ما بذله أبناؤه من جهود وتضحيات وفيما حققوه من مآثر وعظائم.. والعاطفة الثانية هى الشعور بالألم واللوعة لما لحق بهذا الوطن فى الماضى من هزائم وما استهدف له فى حياته الطويلة من مخاطر وعذابات.. والعاطفة الثالثة هى الشعور بالرجاء الصادق فى وصل المآثر والعظائم التى حققها الوطن فى الماضى بقوى الحاضر المتيقظ المتوثب تطلعا إلى مستقبل زاهر يمحو الألم واللوعة وتحاول أن تحقق للوطن عزيمة الأحياء.. هذه العناصر تنهض بشعب وتؤكد وجود أمة.