داخل كل أسرة مصرية قصة وربما قصص عن ذلك التبرع الإجبارى الذى طلب من الأب قبل أن يدخل الابن باب المدرسة الحكومية لأول مرة.. فهذا طلب منه التبرع بأجهزة الصوت لإذاعة المدرسة، والثانى طلب منه التبرع ببعض المقاعد لغرفة المعلمين، والثالث بزجاج نوافذ الفصل، والرابع بدهانات والخامس بسيراميك، و.. و.. البعض يدفع التبرع عن طيب خاطر، والبعض الآخر يعتبره نوعا من الرشوة أو الإتاوة أو استغلال النفوذ أو كل هذا معا. لم تختف هذه الظاهرة بعد ثورة يناير، بل ظهرت الدعوات الرسمية والفتاوى الشرعية إلى التبرع للمدارس أثناء حكم الإخوان المسلمين، تحت اسم المشاركة المجتمعية أحيانا، والتوأمة بين المدارس الحكومية والخاصة أحيانا، ولم يختلف الأمر كثيرا بعد ثورة يونيو، فقد أطلق الوزير محمود أبوالنصر، مبادرة قبل أيام تحت اسم «جدد فصلك واكتب اسم»، وبدأ بنفسه فى التطبيق، ليجدد أحد فصول مدرسته الثانوية الظاهر الثانوية بنين.
لكن هل يمكن أن تظل المدارس الحكومية معتمدة على التبرعات ومبادرات أهل الخير، لتستمر فى تقديم الخدمة التعليمية لطلابها، وهل يصلح الاعتماد على التبرعات لتقديم تعليم جيد لكل طلاب مصر فى الوقت الذى يكفل فيه الدستور الحق فى التعليم المجانى لكل الأطفال دون 18 سنة.
والسؤال الآخر الذى ينبغى أن نعرف له إجابة، هل يمكن للميزانية الجديدة التى خصصها الدستور للتعليم أن تنهى حاجة المدارس إلى التبرعات، أم أن سوء توزيع ميزانية التعليم هو السبب فيما نراه من ....؟
الإجابة: نحاول الوصول إليها فى هذا التحقيق.
يؤكد إبراهيم فرج المتحدث الإعلامى لوزارة التربية والتعليم أن الهدف من مبادرة الوزير «جدد فصلك» والتى تأتى ضمن الشعار الذى ترفعه الوزارة «معا نستطيع» هو مشاركة المجتمع المدنى فى توفير احتياجات التعليم فى مصر، والذى لن تستطيع الحكومة منفردة القيام والوفاء به، حيث إن 90٪ من ميزانية التعليم تخصص للمرتبات، كما أن التعليم يحتاج إلى بناء عشرة آلاف مدرسة حتى عام 2020 لتكون كثافة الفصول 40 تلميذا، فى الوقت الذى تبنى فيه هيئة الأبنية 300 مدرسة فقط سنويا بتكلفة 6 مليارات جنيه، كما حدد لها فى الميزانية، فهذه المبادرة خاصة بالفصول، لكن هناك مبادرات أخرى خاصة ببناء المدارس سيقوم بها رجال أعمال.. ويوضح فرج أن مبادرة «جدد فصلك» ستساعد فى زيادة الشعور بالانتماء للمدارس والإحساس أنها ملك للشعب وليست ملكا للحكومة، حتى لايسهل الاعتداء عليها فيما بعد، كما حدث خلال الانفلات الأمنى وأحداث محمد محمود، حيث سرقت وحرقت الكثير من المدارس فى القاهرة والمحافظات، خاصة أن المتبرع بإمكانه أن يكتب اسمه على الفصل الذى سيجدده.
فرج يرحب بأى طريقة سيتبرع بها من يريد تجديد فصله، سواء كان هذا التبرع عينياً أو مالياً يسلم إلى المدرسة أو يدفع فى الحساب البنكى الذى ستعلن عنه وزارة التربية والتعليم لاحقا، حيث حدد قيمة التجديد بمبلغ 3000 جنيه ويصل إلى100000 جنيه إذا شمل التجديد إضافة السبورة الذكية إلى الفصل، وستعطى تصاريح لمن يريد أن يقوم بأعمال التجديد بنفسه ويتحمل الإشراف على مقاول الدهانات وأعمال الكهرباء وغيرها.
وأشار فرج إلى استجابة العديد من الفنانين لدعوة الوزير ومنهم الفنان سمير الإسكندرانى الذى سيجدد فصله فى مدرسة السعيدية.. والفنان محمد صبحى سيجدد مجموعة من الفصول فى مدرسته أيضا، والإعلامية لميس الحديدى والإعلامى خيرى رمضان.
∎ عودة الروح
الدعوة التى أطلقها الوزير لإعادة التواصل بين الخريجين ومدارسهم، مازالت تحتاج إلى أشكال أخرى من الدعاية للترويج لها، ولا ضمانات للإشراف على التنفيذ، كما يؤكد الكثير من العاملين بالتربية والتعليم.
لكن مبادرات تجديد المدارس وعودة الروح إلى الكثير من مسارحها التى تحولت بمرور السنين إلى مخازن للكراكيب لم تنقطع، آخر هذه المبادرات، تلك التى قادتها وزارة الخارجية التى تقع فى حى بولاق أبوالعلا، لتجديد مدرسة أبوالعلا الإعدادية للبنات، القريبة من ديوان عام الوزارة، بالتعاون مع رجال أعمال وأولياء أمور بالمنطقة.
لم تدفع أى جهة مبالغ مالية للإدارة التعليمية أو المدرسة كما يقول محمد عطية مدير إدارة غرب القاهرة التعليمية، بل بتبرعات عينية، بتوفير الدهانات والأخشاب والزجاج والستائر، ونظام الصوت للمسرح والمراوح وغيرها من الاحتياجات، والعمال المتخصصين فى هذه الأعمال.
مسرح المدرسة الذى غنت عليه الفنانة سعاد حسنى، أغنية البنات البنات ألطف الكائنات، فى إحدى حلقات مسلسل «هى وهو» فى عام 1984، وشاركتها الطفلة وقتها «لقاء سويدان» يجرى الآن بروفات للأغنية لطالبات المدرسة، وبروفات لمسرحية «مصر المحروسة» التى ألفها موجه الدراسات الاجتماعية بإدارة غرب القاهرة طارق علام، المتخصص فى مسرحة المناهج.
علام أخرج فيلما وثائقيا عن حى بولاق أبوالعلا، ونشأته، والمعدية التى كانت تعبر بالناس والأمتعة والمواشى إلى الجانب الآخر من النهر، وعرباخانة الخديوى إسماعيل، التى تحولت إلى متحف العربات الخديوية، فى القرن التاسع عشر، قبل أن يتحول إلى متحف العربات الملكية، الذى يلاصق الآن وزارة الخارجية.
الفيلم سيعرض خلال الاحتفال المرتقب لافتتاح المسرح بحضور وزيرى التربية والتعليم والخارجية.
البنك الأهلى المصرى الذى يقع فى نفس الحى أيضا، اتفق مع مدير إدارة غرب القاهرة التعليمية، على تطوير 30 مدرسة داخل الحى أيضا، تشمل بناء أسوار للمدارس التى تهدمت أسوارها، أو بعض مبانيها أو فصولها، تحت إشراف المهندس حسين صبور، وطبق مواصفات هيئة الأبنية التعليمية، ودون أن يتسلم أحد من المسئولين فى المدارس أو الإدارة التعليمية أى مبالغ نقدية، كما يؤكد محمد عطية.
مبادرة البنك الأهلى تشمل أيضا تدريبات مهنية للمدرسين، ومكافآت للعاملين فى مبادرة محو أمية طلاب الابتدائى، التى بدأت منذ عام بشكل طوعى فى مدارس الإدارة، إلى جانب تقديم رعاية صحية للطلاب وجميع العاملين بالمدارس، من مدير المدرسة وحتى أصغر عامل، من خلال أطباء زائرين، وعلاج من تستدعى حالته الرعاية على حساب البنك بالمستشفيات.
ويصف عطية المبادرات التى يرجى منها إصلاح التعليم بأنها كالحلم وإن صعب تحقيقه كاملا يمكن تحقيق جزء منه، ويوضح عطية رؤيته لنموذج مشابه يحدث فى بعض مدارس مدينة 15 مايو، حيث اعتاد خريج هذه المدارس التواصل مع بعضهم والتجمع يوم كل عام فى مدارسهم القديمة، من أجل التواصل مع الأجيال الجديدة والمساعدة فى حل مشكلات المدرسة.
ولا يخفى عطية المشكلة التى تقف أمام اصحاب المبادرات، كمن يريد إصلاح أو بناء بعض المبانى أو أسوار المدارس المهدمة ذات الطابع المعمارى المميز، حيث لابد من إشراف هيئة الأبنية التعليمية عليها وإلا سيحدث معها مثلما حدث مع سور مدرسة على عبداللطيف بجاردن سيتى، فبعد أن أشرف على بناء سور جديد لها بعد السور الذى تهدم بعد ثورة 25 يناير، هدمت الهيئة السور الجديد بحجة أنه غير مطابق للطراز المعمارى للمدرسة، وهى إلى الآن بدون سور وبانتظار أن تبنى الهيئة السور الجديد.
ويسرد عطية مجموعة من مدارس الإدارة التى تحتاج إلى صيانة وترميم لبعض مبانيها، كمدرسة على عبداللطيف وأمير اللواء والاتحاد الوطنى وطلعت حرب التجارية ببولاق ومبنى مغلق بمدرسة كلية البنات.
∎ مبادرات إعلامية
وينظر عبدالناصر إسماعيل ممثل اتحاد المعلمين، لمبادرات وزارة التربية والتعليم خاصة المبادرة الأخيرة التى أطلقها الوزير محمود أبوالنصر «جدد فصلك واكتب اسمك» بأنها مبادرات الهدف منها الشو الإعلامى وليس إيجاد حلول حقيقية لمشكلات التعليم والمدارس بشكل عام، لأنها غير واقعية كما أن هناك صعوبة فى تطبيقها ولكن طالما أن الهدف هو تفعيل المشاركة المجتمعية لتلبية احتياجات العملية التعليمية، فلماذا لا تبدأ الوزارة بنفسها وتتبنى مبادرة لترشيد نفقات ديوان عام الوزارة الذى لا يعد عن كونه ثلاثة مبانٍ ينفق 4 مليارات و300 مليون جنيه فى العام من ميزانية التعليم، وهو نفس المبلغ الذى ينفق على العملية التعليمية كلها من مرتبات معلمين وإداريين وغيره فى جميع مدارس محافظة القاهرة!!
ويكمل إسماعيل: الأمل معقود على ما سيمنحه الدستور الجديد من ميزات تخدم التعليم وخاصة تحديد نسبة 4٪ من الناتج القومى الإجمالى للإنفاق على التعليم يرفع تدريجيا ليصل إلى المعدلات العالمية.
وفى نفس الوقت لا يمانع إسماعيل من المشاركة الاجتماعية فى حل مشكلات التعليم على أن تكون فى صورة هبات ومنح توضع كودائع بنكية يتم الصرف منها على المدارس المحتاجة، ولا تكون هذه المساعدات فى شكل صدقات لأن أسلوب الصدقات لاينتج حلولا للمشاكل أو الأزمات.
∎ التبرع العينى
أما إيمان حسين مدرسة الأحياء بمدرسة عابدين الثانوية بنات والمسئولة عن صفحة إدارة عابدين وغرب القاهرة التعليميتين على «الفيس بوك»، فتقول أعجبتنى كثيرا المبادرة التى أطلقها الوزير «جدد فصلك»، دعوته لخريجى المدارس إلى المشاركة فى تلبية احتياجات مدارسهم القديمة التى تخرجوا فيها، خاصة أننا فى إدارة عابدين قد قدمنا دعوة منذ فترة لقدامى خريجى مدارس الإدارة، للتواصل مع هذه المدارس لمن يرغب منهم للمساعدة فى تقديم خدمات وإصلاحات لمدرسته التى ارتبط معها بذكريات وعلاقات مع مدرسيها، وبالفعل تمت الاستجابة من خريجى مدرسة قاسم أمين الابتدائية وتواصلوا معنا عبر موقع الإدارة والتقوا فى المدرسة، وأمضوا بها يوما احتفاليا وهم مستعدون لتقديم أى مساعدات أو تجديدات تطلب منهم.
من جانبه يرحب دكتور على الألفى مديرمديرية التربية والتعليم بالجيزة بفكرة المبادرة والمشاركة المجتمعية للمساعدة فى حل مشكلات المدارس من تجديد فصول وإحضار سبورات ودسكات، ويلفت الألفى الانتباه إلى نموذج للمبادرة حدث مؤخرا بالمحافظة، عندما قام أحد خريجى مدرسة السعدية الثانوية القدامى بتجديدها وترميمها وتجهيزها بوسائل تعليمية جديدة وهو أحد أبناء المهندس طلعت مصطفى صاحب أشهر شركات المقاولات وبلغت تكلفة أعمال التجديد 50 مليون جنيه.