منذ 54 عاما .. وعلى وجه التحديد فى بداية عام 1968.. وبعد أن أنهكتنا المظاهرات على مدى عدة أيام اعتراضا على الأحكام الهزيلة التى صدرت ضد قيادات سلاح الطيران التى كانت سببا رئيسيا فى هزيمة1967 .. وسجن من سجن من قيادات الحركة الطلابية.. وأصيب من أصيب.. وفى المساء كانت بعض القيادات اليسارية من الحرس القديم قد التفت حولنا لاستقطاب المتمردين الجدد من شباب الجامعات ..
وكانت قصيدة نزار قبانى «هوامش على دفتر النكسة» قد تحولت بعض مقاطعها إلى شعارات فى مظاهراتنا حيث يقول : «أنعى لكم../ كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة../ أنعى لكم.. / مفردات العهر، والهجاء، والشتيمة/ أنعى لكم.. نهاية الفكر، الذى قاد إلى الهزيمة» و.. «بالناى والمزمار.. لا يحدث انتصار» و.. «نريدُ جيلاً غاضباً/ نريدُ جيلاً يفلحُ الآفاق/ نريدُ جيلاً قادما/ مختلفَ الملامحْ/ لا يغفرُ الأخطاءَ/ لا يسامحْ/ لا ينحنى/ لا يعرفُ النفاقْ/ نريدُ جيلا.. رائداً.. عملاقْ». وكنا نحسب أنفسنا ذلك الجيل الرائد العملاق، الجيل الذى لا ينحنى ولا يعرف النفاق (!!). .. واعتبرنا آنذاك أن تلك الكلمات هى أقصى ما يمكن أن يقال لنقد أسباب النكسة .. حيث منع بسببها نزار قبانى من الدخول إلى مصر .. فإذا بكلمات كطلقات الرصاص تندلع فجأة من (خوش قدم أو حوش آدم) وهو زقاق صغير فى حى الغورية حيث كان يقيم نجم والشيج إمام كلمات تشن هجوما مبكرا على نظام عبدالناصر.. وعلى الضباط الأحرار وإذا بهذه الكلمات تتحول إلى نشيدنا الوطنى الذى نردده جميعا ساخطين متمردين رفضا للهزيمة وللمتسببين فيها.. كلمات كنا نتداولها مكتوبة (سرا).. ونغنيها (علنا) .. ونرددها فى جلساتنا المغلقة (سخطا) .. وكانت تلك الأغنية هى باكورة إنتاج أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام التى دشن بها نجم بداية العصر الذهبى للغناء السرى المناهض والمعادى لكل الحكومات المستبدة فيما بعد.. حيث كانت تقول كلماتها: «الحمد لله خبطنا تحت باطاتنا يا محلا رجعة ضباطنا من خط النار لا تقوللى سينا ولا سيناش .. ما تخوتناشى ياستموت أتوبيس ماشى شاحنين أنفار إيه يعنى فى العقبى جرينا ولا فى سينا هى الهزيمة تنسينا .. إننا أحرار وكفاية أسيادنا البعدا .. عايشين سعدا بفضل ناس تملا المعدة .. وتقول أشعار أشعار تمجد وتماين حتى الخاين وانشاالله يخربها مداين عبد الجبار !!».. إلخ وكان لهذه الكلمات تأثير مربك وقاسٍ وصادم بالنسبة لنا.. فعلى الرغم من أنها ألهبت حماسنا ودفعت بنا إلى مزيد من التمرد والسخط والعصيان.. فإنها أثارت فينا مشاعر متضاربة.. فنحن الجيل الذى تربى داخل منظمة الشباب وعشنا حالة من المد الثورى والانتصارات الدولية الشامخة.. فعبدالناصر بالنسبة لنا لم يكن مجرد زعيم وطنى للأمة العربية فحسب.. أو قائد سياسى تهتز أمام نبرات صوته الهادر القلوب والملوك والحكام .. بل كان بالنسبة لنا رمزا وأبا وأسطورة لا نسمح لأحد بالمساس بها .. وبعد أن خرجنا جميعا بالملايين فى( يونيو 76) نرفض أن يتخلى عنا عبدالناصر ويتركنا فى بحر ظلمات الهزيمة المهينة .. وبعد أن غنى له عبدالحليم حافظ على الفور بكلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل: ياناصر يا حرية / ناصر يا وطنية/ يا روح الأمة العربية/ الشعب يريدك يا حياته ... إلخ».. وبعد أن غنت له أم كلثوم بكلمات صالح جودت وألحان رياض السنباطى: «قم واسمعها من أعماقى/ فأنا الشعب/ ابق فأنت السد الواقى لمنى الشعب/ ابق فأنت الأمل الباقى لغد الشعب/ أنت الخير وأنت النور أنت الناصر والمنصور/ قم للشعب وبدد يأسه/ واذكر غده واطرح أمسه/ قم وادفعنا بعد النكسة/ وارفع هامة هذا الشعب».. وبعد كل ذلك يأتى أحمد فؤاد نجم ليهاجم الزعيم عبدالناصر بضراوة ويسخر منه ويستخف به.. فتضاربت المشاعر: نردد الأغنية المحبطة التى تهين (ضباط) الجيش المصرى وتسخر من الزعيم!! .. أم نستنكرها ونصطف وراء القائد الجريح ونرفض شاعرها.. ولكن نيران الغضب والإحباط التى خلفتها الهزيمة كانت كافية لأن تدفعنا بعد قليل أن نبحث عن شاعر هذه الأغنية ومغنيها .. خاصة بعد أن فاجأنا بعد قليل بأغنيته الخالدة : «مصر يا أمه.. يابهية يامو طرحة وجلبية الزمن شاب وأنتى شابة هو رايح وأنتى جايه» فقد لفتت كلمات هذه الأغنية انتباهنا بقوة نحو توجه هذا الشاعر العبقرى الذى يراهن على الشعب فقط.. فلا الزعماء خالدين .. ولا القادة دائمين.. ولا المخلصين موفقين دائما.. ولكن الشعب فقط هو الباقى.. وهو أقوى من جميع الأسلحة التى يشهرها العدو الصهيونى فى وجوهنا بغدر وخسة وشراسة، ومن هنا تحول أحمد فؤاد نجم إلى شاعرنا المفضل حيث صمتت كل الأصوات منحازة للاصطفاف خلف الزعيم لتوحيد كل القوى لمواجهة العدو الرئيسى، وبقى هو الصوت الوحيد المعارض. وذات مساء بعد يوم صاخب من التظاهر التقينا بأحد قيادات الحرس القديم من المناضلين الذين صمدوا بعد خروجهم من المعتقل عام 4691. وكنا نتحدث عن ظاهرة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم بشغف واندفاع.. لنؤكد له مدى ثوريتنا ووطنيتنا واهتماماتنا السياسية .. وإذا به يبتسم ابتسامة غامضة قائلا : يعنى إنتم مقتنعين بأغانى الشيخ إمام ونجم؟؟ وصحنا جميعا لنؤكد انتماءنا للتمرد: طبعا!! وعاد لا بتسامته الأكثر غموضا: يعنى نفسكم تشوفوا أحمد فؤاد نجم وتسمعوا الشيخ إمام؟؟ فهتفنا جميعا : ياريت!! فقال: طيب واللى يعزمكم الليلة على سهرة غنائية فى بيت نجم وإمام!! قفزنا جميعا من هول المفاجأة.. وصرخنا : بتتكلم جد !! فوقف قائلا: وفورا.. يلا بينا. كان الليل يقترب من منتصفه حين مضينا متوجهين إلى وكر الغناء السرى الذى كانت تحيطه المخاطر ويكتنفه الغموض .. فقد كانت تحكى لنا حول هذا المكان الحكايات التى بدت كالأساطير : إذ قيل لنا أنه مكان معرض لهجمات مباحث أمن الدولة فى أى وقت!!.. والداخل مفقود والخارج مولود!! .. فأنت فى منزل نجم وإمام قد يقبض عليك ولا تصنف على أنك مناضل سياسى.. بل تتهم بالإتجار أو تعاطى المخدرات.. ومن السهل أن تلبس قضية قلب نظام الحكم أو الانتماء إلى تنظيم سرى شيوعى.. ولكن من يركب البحر لا يخشى من الغرق.. فاعتمدنا على الله تملأنا مشاعر الفخر والابتهاج بهذه الشجاعة.. فها نحن نرتقى أولى درجات النضال والتضحية.. وربما الموت ضربا مثل المناضل شهدى عطية داخل السجون فنحن لم يمض علينا أكثر من ثلاثة أشهر على التحاقنا بالجامعة ومازلنا صغارا على السجن.. ولو مخبر يده ثقيلة ممكن نخلص فى يده من أول علقة فى التحقيقات الأولية.. ولكن الرغبة فى مشاهدة هذا الشاعر المتمرد وهذا المغنى المعجزة ذو الصوت الهادر الحنون .. كانت كافية لأن نتمثل البطولة المطلقة فى هذه المرحلة المهمة والثرية من تاريخ مصر. وصلنا إلى الغورية ومنها إلى حوش آدم.. وكلما تقدمنا الشوارع تضيق.. دخلنا منزلا قديما متهالكا.. السلم حلزونى أضيق من سلالم مأذنة جامع فى قرية.. الدرجات متآكلة.. وكأنها آيلة للسقوط.. ازداد إحساسى بالمخاطرة.. وبدا لى أن المكان سرِّى بالفعل ولا يعرفه أحد إلا الثوريون وهذا يبدو أنه مقصود.. وهل شاعر ومغنى مشهور يسكن هنا أم نحن الذين صنعنا الأسطورة.. كانت هناك أصوات جماعية عالية تردد «حاحا.. حاحا» وكلما صعدنا ازداد الصوت وبدا أكثر وضوحا.. إلى أن دخلنا إلى فتبين لنا المشهد الذى لن تمحوه السنوات من الذاكرة .. حيث كانت الغرفة رغم ضيقها الشديد ككل شىء هنا تكتظ بالرجال والنساء.. بالشباب والفتيات .. المصباح الوحيد الكابى المعلق فى سقف يكاد يطبق على الحاضرين والأجساد المتراصة لا تسمح لى بأن أتعرف على أحد.. وكل حواسى تبحث عن الشاعر أحمد فؤاد نجم أما الشيخ إمام فقد كان العود كافيا لأن يدلنى عليه.. أدركت بسهولة أنه لا مكان لنا فى هذا الحشد الغفير فالمكان لا يمكن لأن يتسع لمزيد من البشر.. ولكن سرعان ما أشار لنا الجالس عن يمين الشيخ إمام ويغنى معه بحماس أن نجلس فى أى مكان مرحبا بإشارة من يده حتى لا يقطع الغناء.. وفى ثوانٍ تضاغط الحاضرون فى بعضهم البعض.. ووجدنا أنفسنا نحشر حشرا بين الجالسين ونردد معهم على الفور «حاحا» والشيخ إمام يكمل مقاطع أغنيته: «ناح النواح والنواحة.. على بقرة حاحا النطاحة والبقرى حلوب .. حاحا تحلب قنطار ..... حاحا لكن منهوب ..... حاحا من أهل الدار .... حاحا .. إلخ» وبعد صدمة الوهلة الأولى.. عرفت أن الجالس عن يمين الشيخ إمام هو الشاعر أحمد فؤاد نجم.. والجالس عن شماله «محمد على» الذى كان يحفظ كل ردود الأغانى.. ويقوم بدور «الكورس» ويرشد الحاضرين على توقيتات ومواقع ترديدها.. ويتحول إلى عازف إيقاع إذا تطلب الأمر.. وعرفت بعد ذلك أنه رفيق الشيخ فى كل تحركاته وحامل العود . وبعد قليل اتسعت الرؤية ووضحت الوجوه.. وتنادى البعض بالأسماء بعد نهاية أغنية «حاحا».. فإذا بى أفرك عينى غير مصدقٍ أننى أجلس مع المخرج الشهير: يوسف شاهين .. وبجواره تجلس الفنانه القديرة محسنة توفيق.. وفتاة رائعة الجمال عرفت بعدها أنها ممثلة لبنانية اسمها حبيبة من أحدث اكتشافات يوسف شاهين آنذاك والفنان صلاح قابيل والفنانة رجاء حسين والفنان سيف عبدالرحمن.. وعدد كبير من المثقفين الكبار والكتاب وشباب فى عمر الزهور يكبرننى ببضع سنوات.. لم أصدق فى البداية أننى أرى شخصيا هؤلاء النجوم الذين كان من الصعب على غر صغير مثلى قادم من على خط النار من مدينة السويس .. حديث عهد بالقاهرة .. أن يلتقى وجها لوجه مع كل هؤلاء النجوم .. وأين !!! هنا فى هذا المكان الذى تحف به المخاطر من كل جانب .. إذن إنه شاعر كبير يقصده علية القوم والمشاهير .. و«مغنى» متمكن له قيمة عالية فى عالم الغناء السرى.. ومن ذلك التاريخ اعتبرت نفسى محظوظا إذ عرفت أن هذه سهرة استثنائية.. لأن كل هؤلاء قد جاءوا إلى الشيخ إمام ليختار يوسف شاهين الأغنية الرئيسية «مصر يا مه يابهية» لفيلمه الجديد .. وأن محسنة توفيق سوف تغنى هذه الأغنية بصوتها فى فيلم سينمائى اسمه «العصفور» .. من إنتاج يوسف شاهين بالاشتراك مع الجزائر .. وأن المفكر الكبير ورئيس تحرير مجلة الطليعة لطفى الخولى هو مؤلف الفيلم .. وهنا بدأت علاقتى بهذا «الوكر» الثورى.. تطورت علاقتى بنجم والشيخ إمام ومحمد على ثم تحولت إلى صداقة.. ورفاقة فى طريق واحد خاصة وبعد رحيل عبدالناصر الذى كان أحيانا حائلا بينى وبين نجم بسبب الانتقادات الحادة التى كان نجم يشنها عليه فى جلساتنا الخاصة.. وأتاح الرئيس السادات لنجم فرص هائلة لمساحات مفتوحة من الانتقادات الحادة والمباشرة لكل سياساته التى كانت نكوصا لسياسة عبدالناصر وارتدادا عن الانحياز للفقراء وتوجهاً للتصالح مع العدو الصهيونى ودعوة لبيع القطاع العام وتشريد العمال وتفتيت القلاع الصناعية التى حاول عبدالناصر بها أن يضع مصر على خارطة التصنيع الثقيل.. ومن هنا صار العداء مشتركا وأصبحنا نحن «جيل السبعينيات» فى خندق واحد مع ظاهرة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم.. وازداد التقارب واتسعت مساحات الود والمحبة.. وأصبحنا جميعا من دراويش أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام.. لا يذهب إلى مكان إلا وكنا معه.. ولا يقام احتفال فى الجامعة إلا وكنا نحن وراءه.. ولا يمر يوم إلا وتكون هناك سهرة للغناء السرى الذى تحول إلى جريدة يومية معارضة لسياسات النظام.. وإذاعة متنقلة لنشر الأغنية المناضلة والمقاومة لكل السياسات المعادية للشعب وحريته وحقوقه وقوت يومها. انتشرت أغانى نجم وإمام فى كل أرجاء مصر رغم الحصار المضروب حولهما.. ورغم القضايا التى لفقت لهم مرارا فى عهد عبدالناصر والسادات والأحكام التى صدرت ضدهما بالسجن فقضوا فترات مفتوحة من السجن والاعتقال.. وازداد تضييق الخناق على نجم وإمام فى أيام السادات فمنعهم من السفر لفرنسا لإحياء حفل كبير دعته إليه الجالية العربية هناك فكتب نجم أغنيته الشهيرة: «ممنوع من السفر/ ممنوع من الكلام.. إلخ». وأطلق عليه السادات مصطلح «الشاعر البذىء».. بعد أن تحول نجم وإمام إلى رمز عربى لمقاومة الحكومات الاستبدادية.. وكلما زاد الحصار زادت شهرتهما وذاع صيتهما.. وانتشرت أغانيهما التى تحولت إلى أعلى صوت ثورى فى المنطقة العربية كلها.. فالأغنيات كانت صالحة لأن تتغنى بها كل الشعوب العربية المغلوبة على أمرها.. وأصبحت شقة نجم وإمام فى حوش آدم مزارا لكل المناضلين والسياسيين والشعراء والكتاب العرب حين يأتون إلى القاهرة، وتحولت الظاهرة إلى نموذج يحتذى به.. فى مصر وفى جميع الدول العربية وأصبح الغناء الثورى المناهض لظلم واستبداد الأنظمة قاسمًا مشتركا من المحيط إلى الخليج.. فظهرت الفرق الخاصة تباعا.. وانتشر الغناء المقاوم للاستبدد كبديل للغناء الرسمى فى معظم الدول العربية.. وتربى جيل بأكمله من الشباب منذ بداية السبعينيات حتى يومنا هذا على الثقافة البديلة والغناء السرى والثورى.. والفضل كل الفضل يرجع لأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام.. وتهافت الشعراء من كل مكان يقدمون القصائد والأشعار للشيخ إمام ليكتب لهم الخلود إذا ما تغنى بكلماتهم الشيخ إمام الذى لم يأخذ حقه من التقدير والإجلال على أنه ملحن الشعب طوال فترة السبعينيات والثمانينيات. وعندما جاء مبارك إلى الحكم سمح لهم بالسفر إلى فرنسا فى البداية ومنها تنقلوا بين معظم العواصم العربية .. ومن هنا بدأت الخلافات تدب بين الثلاثة : «نجم والشخ إمام ومحمد على».. خاصة عندما تدفقت عليهم الأموال بسخاء من كل جانب.. وأقام نجم فى سوريا واستقر بها لفترة طويلة وتزوج هناك.. وبعد أن خرجوا ثلاثتهم من مصر فرقة واحدة وكيانًا فنيًا لا ينفصل عادوا منفصلين متفرقين مختلفين.. وظلوا مختلفين لفترة طويلة إلى أن قرر بعض المحبين لنجم وإمام ومحمد على أن ينجمع شملهم مرة أخرى وتم تدبير لقاء بينهم فى مكتب أحد المنتجين السينمائيين فى شارع الألفى وكان العبد لله أحد مهندسى هذا الصلح التاريخى الشهير مع المخرج والسينمائى فاروق عبدالخالق.. وكان معى مصور روزاليوسف وقمت بتسجيل مراحل الصلح دقيقة بدقيقة.. بعد أن أصر كل منهم أن يجلس فى حجرة مستقلة.. وكتبت عن هذا الصلح موضوعا مطولا نشرته مجلة روزاليوسف حين كان الزميل عادل حمودة نائبا لرئيس التحرير محمود التهامى.. واصطحبت نجم معى فالتقى بعادل حمودة واتفقنا على أن ينشر مذكراته مسلسلة أسبوعيا فى المجلة تحت عنوان «الفاجومى».. وكنت قبلها وفى عام 1985 قد أعددت عددا خاصا للاحتفال بذكرى الشاعر بيرم التونسى فذهبت إلى نجم فى حوش آدم قبل صدور العدد بشهر لأستكتبه مقالا عن بيرم .. وأكدت عليه ألا يخذلنى لأننى أعلم بحكم العشرة أن نجم مزاجى وهوائى .. وليس له «ملكة» وبالفعل مر الشهر بسرعة ولم يكتب نجم فذهبت إليه فى حوش آدم ووجدته يلعب كوتشينه مع بعض الأصدقاء فقلت له سوف تأتى معى لتكتب أمام عينى المقال وعلى مكتبى فى مجلة صباح الخير .. فضحك متنصلا .. معلش بعد ما أخلص لعب لأننا معلقين رهان مين اللى حيغدينا النهارده .. فأقنعته بأن يترك اللعب وسأغديه كباب من أبوشقرة أثناء كتابة الموضوع فضحك ونظر لأصدقائه وأصدقائى بالطبع .. قائلا : ومين اللى يغدى المقاطيع دول اللى بقالهم تلات تيام بيلعبوا على لحم بطنهم .. فضحكنا جميعا ومضينا أنا ونجم واصطحبته إلى المجلة وعندما دخلنا مبنى روزاليوسف قطعنا المسافة من الاستعلامات حتى الدور السابع فى ثلاث ساعات بعد أن تخاطفه الزملاء فى مكاتبهم كل يريد أن يعزمه على قهوة أو شاى إلى أن وصل الكباب .. فبدأ فى كتابة أروع ما قيل عن بيرم التونسى خاصة عندما علم أن الفنان حجازى سيرسم غلاف هذا العدد.. وأن الشاعر فؤاد قاعود سينشر فى هذا العدد قصيدة مطولة عن بيرم التونسى بالفصحى.. فقال لى : كده الواحد يكتب بنفس لأن دول أساتذتى وهم اللى علمونى السياسة .. فقد كان نجم بدأ حياته شاعرا وزجالا يكتب الأغانى العاطفية بحس شعبى راقٍ ذى مذاق خاص والديوان الوحيد الذى نشر له قبل أن يلتقى بحجازى وفؤاد قاعود عن الكورة وفريق النادى الأهلى إذ كان نجم أهلاويا متعصبا .. وعندما وقعت نكسة 67 كان التقى بحجازى وقاعود وعرفه عليهما الناقد الكبير رجاء النقاش .. وبدأ يتعرف على هذا العالم الجديد من المثقفين المصريين المحترمين .. وبدأ أولى خطواته نحو الأغنية المسيسة .. حتى صار أعلاهم صوتا وأكثرهم انتشارا.. وأشهر من قاوم الأنظمة الاستبدادية.. وثار رمزا حقيقيا لكل الثائرين فى جميع أرجاء الوطن العرب.. وعندما سألته ذات مرة : ماذا كنت تفعل قبل أن تلتقى بحجازى وقاعود؟! فرد ببساطة وبسرعة مذهلة قائلا: كنت حمار!! وظل أحمد فؤاد نجم ظاهرة استثنائية فى تاريخ الشعر والغناء المصرى والعربى.. وهو لا يخضع لأى تصنيف كشاعر كبير فهو حالة خاصة من التألق والعطاء المتجدد والمتدفق للقصيدة التحريضية الثائرة اللاذعة.. لهذا بقى لمدة أربعة عقود متربعا على عرش المعارضة المقاومة للاستبداد.. وظل ثائرا منفلتا ليس له كبير.. يفعل ما يشاء وقت ما يشاء.. ولم ينجح أى حاكم فى أن يلجمه أو يجبره على الصمت طوال فترة حياته الغنية بالتفاصيل والحكايات والمواقف الصلبة والطريفة أيضا. ولكن نجحت «الحرية» التى منحها مبارك له فتركه يسافر فتفرق الأصدقاء!!.. ونجحت «الحرية» التى حصلت عليها الصحف المستقلة فى أن تتجاوز خطاب نجم التحريضى وتقضى على ظاهرة الغناء السرى.. فأصبح بمقدور أى صحفى مبتدئ أن يلعن أجداد أى مسئول فى الدولة .. بدءًا من الغفير إلى الوزير، ومن هنا أصبحت ظاهرة الغناء السرى لا تحظى بالاحتفاء الذى يليق بها .. ولم يعد هذا الكلام يؤدى بأصحابه إلى السجن، فانطفأ بريق الظاهرة . وأصبحت جزءًا نعتز به فى تاريخ نضال الشعب المصرى.. وأصبح نجم أيقونة الثورة.. وكل ثورة.. لأنه عاش بسيطا صادقا.. ولم أعرف على أرض مصر أحدا يؤمن بقدرات الشعب المصرى الخلاقة أكثر من أحمد فؤاد نجم.. فهو محب لهذا الوطن ومحب لهذا الشعب ومؤمن به إلى حد اليقين بأنه لن ينهزم أبدا مهما كانت شراسة أعدائه.. لقد غنى نجم مع الشعب وللشعب ومات وسط محبيه.. ولكنه سيظل حيا دائما أبدا فى ضمير شعبه الذى أفرط فى حبه له فأحبه الشعب بصدق.. وداعا صديقى الجميل أبوالنجوم الرائع البديع.∎