التطورات السياسية، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، فى روسيا، تشغل اهتمام كثيرين فى أنحاء العالم، حتى أولئك البعيدين عن محيطها الحيوى، أو فى الدوائر غير القليلة المرتبطة بها.. والمفروض أننا فى منطقة ليست بعيدة عن التأثر والتأثير، بهذه الدولة ذات الماضى العريق، والحاضر الملىء بوعود متناقضة!.. والكتاب الذى صدر منذ أسابيع، للدكتور هانى شادى، بعنوان «التحول الديمقراطى فى روسيا من يلتسين إلى بوتين، التجربة والدروس على ضوء الربيع العربى»، تعبير عن هذا الاهتمام، وترجمة متميزة له، من كاتب مصرى. كاتب يعرف روسيا معرفة عميقة، حصل على دكتوراه فى الاقتصاد من جامعاتها، ويعمل على أرضها ويتزوج من أهلى، مما أتاح له التمكن من لغتها والانغماس فى طبقاتها المختلفة وقراءة صحفها ومؤلفات علمائها وباحثيها.
ومن هنا فهو مراقب مسموع الكلمة، يستطيع الإجابة عن كثير من الأسئلة، فى الشأن الروسى، التى تبدو غامضة أمام المواطن العربى، كما فعل فى الكتاب المشار إليه. ومن بينها انعكاسات أحداث الربيع العربى.
وصلب الكتاب مكرس، للتحديات التى واجهتها روسيا، بعد انهيار الدولة السوفيتية، والإطاحة بالحزب الشيوعى، والنظام الذى أقامه على امتداد سبعين عامًا، والبديل الذى حل محله، ولا يزال محل تساؤل وخلاف، منذ ولادته فى 1991.
والمفروض أن فاتحة المرحلة الفاصلة فى تاريخ روسيا المعاصرة، تبدأ بوصول جورباتشوف إلى قمة السلطة سنة 1985، وإعلانه حاجة النظام الماسة إلى التجديد والإصلاح.
ومؤلفنا الشاب، لا يتوقف كثيرًا عند هذه اللحظة، على أهميتها، ربما لأنه حدد فترة بحثه منذ يلتسين إلى اليوم.
وإن كان قد ذكر لنا تقييم بعض المحللين الروس، لفترة جورباتشوف «بأن جورباتشوف كان يريد إصلاح ما لا يمكن إصلاحه».
وهذا تقييم دقيق وبليغ جدًا.
وهذا ما وعاه يلتسين جيدًا، ووضعه نصب عينيه، أن الوقت قد نضج تمامًا، لتصفية النظام السوفيتى واقتلاعه من جذوره، وبأسرع ما يمكن.
حيث أعلن أن برنامجه هو إنهاء احتكار الحزب الشيوعى للسلطة، وفتح الباب أمام التعددية الحزبية، وإقامة ديمقراطية ليبرالية، على النمط الأوروبى تستند إلى اقتصاد السوق.
∎ الديمقراطية الموجهة
وما أن أصبح رئيسًا لروسيا، فى مطلع التسعينيات، حتى ألغى المعاهدة التى تجمع الجمهوريات السوفيتية، وانفرط عقد الجمهوريات الخمس عشرة، فى لحظات، ودون مقاومة، فى مباغتة تاريخية، ستظل موضع اهتمام المؤرخين طويلاً، هى وتهاوى الحزب الشيوعى.
وعندما حاول البرلمان الروسى التصدى ليلتسين، قصفه بالدبابات، وقال:
«إن البرلمان يعيش فى وهم كبير، حيث تصور أن الشعب كان يقف معه من أجل العودة إلى النظام البلشفى».
وإذا كان يلتسين، يعى ويفهم، ما جاء ليهدمه ويطيح به، فإن ما عليه إقامته على أنقاضه لم يكن ماثلاً أمام عينيه، أو يستطيع تخيله.
وحين يستعيد، هانى شادى، المسيرة الروسية، منذ انطلاقها مما يقرب من عشرين عامًا، فإن التبشير بالديمقراطية الليبرالية- أو الدستورية كما تأتى أحيانًا فى الكتاب- على النمط الغربى، كانت مجرد شعار يعرف يلتسين فقط سحره وتأثيره على الجماهير.
وعلى أرض الواقع، كان يرسى دعائم نظام مختلف عن الديمقراطية ومشاركة المواطنين ومساواتهم أمام القانون وتداول السلطة، إلى آخر القيم التى كانت أحلامها تطوف بالرؤوس.
ويشرح المؤلف ملامح هذا النظام، بعد أن قوى عوده وامتدت جذورها فى الأرض.
ويؤكد لنا أن معظم المراقبين والمحللين الثقات، من روس وأجانب، توافقوا على تسمية هذا النظام باسم «الديمقراطية الموجهة»!
وحين ينظر الباحثون اليوم فى أصول النظام الروسى القائم- ومنهم باحثنا المصرى- يرون أن اللبنة الأولى لهذا النظام، تعود إلى دستور 1993، الذى فرضه يلتسين، ولايزال قائمًا، وهو دستور لا يقوم على الفصل والتوازن بين السلطات، ولكن يمنح الرئيس المنتخب صلاحيات واسعة، على حساب الجميع.
وإذا كان يلتسين هو الذى وضع أساس النظام، الذى ورث العصر الشيوعى، فإن خليفته بوتين، تابع رسالته وحمى النظام وطوره، وأضاف إليه، وأصبح شريكًا قويًا مرهوبًا فى الحقبة المعاصرة.
وقد بدأت ملامح النظام كما قلنا، بإطلاق يد الرئيس، ثم تكاملت بإجراءات وأدوات أخرى. وأقوى الأدوات، هى اعتماد النظام على نخبة جديدة، من المليارديرات الجدد، الذين صنعوا ثرواتهم، من نهب القطاع العام، الذين استولوا عليه، أحيانًا بلا ثمن، عن طريق الخصخصة، التى انطلق قطارها، يفكك كل ما تم بناؤه فى العصر السابق، ويقدمه لهؤلاء النهابين غنيمة باردة.
وانضمت إلى هؤلاء، ما تقاطر من البيروقراطية السابقة، ومن جندهم يلتسين من أجهزة الأمن المختلفة، والإعلام الذى أصبح معبرًا عن السلطة، وبالذات أهم وسائله، وهو التليفزيون.
وتخلق حزب للسلطة يأتمر بأمر الرئيس والنخبة التى تسانده، لم يعد يختلف على مر الوقت، عن الحزب الشيوعى فى المرحلة السابقة، من حيث الامتيازات والتحكم.
فالسمة الرئيسية لنهج «الديمقراطية الموجهة» هذا هو استعارة، كل الأشكال الديمقراطية من الغرب، ولكن دون المضمون.
فهناك تعددية، وأحزاب، ومعارضة، ودستور، وانتخابات، وطوابير أمام الصناديق، ولكن النتائج محددة سلفًا، ولا تتناول الأقتراب من منصب الرئيس، كما تضمن نجاح حزبه.
وتتكفل بسريان هذه السياسة، سلسلة من القوانين والإجراءات والتعديلات الدستورية، تتحكم فى نشأة الأحزاب، وقيامها، ومدى استمرارها، وتمكنها من خلق أحزاب معارضة تدور فى فلكها.
ولا تتورع عن اللجوء للتزوير إذا لزم الأمر.
وإذا لم يكن هذا كافيًا، فإن القوة جاهزة، لإجهاض أى نجاح للمعارضة الحقيقية، وعندما بدا سنة 1996، أن الحزب الشيوعى، هو الأقرب للنجاح، بسبب تردى الأوضاع الاقتصادية آنذاك، خاطب يلتسين ممثليه قائلاً:
«لا تمزحوا معنا، نحن لن نسلم السلطة، أنتم حكمتم هذا البلد لمدة سبعين سنة، ولذلك اتركونا نحن نحكم أيضًا سبعين سنة، وإذا لم نتمكن من خلال تلك المدة من الحكم، عندئذ سنرجع لكم السلطة».
∎ تبادل السلطة
وتداول السلطة، الخطر الأهم فى منطومة الديمقراطية، يتحول فى السياسة الروسية إلى تداول السلطة، وهو سلوك أشبه ببدعة التوريث فى بعض البلدان.
وقبل أن تنتهى الولاية الثانية ليلتسين، انشغل باختيار خليفته، ليرث التركة، وفى مقدمتها، حماية الرئيس السابق من الملاحقة، لمحاسبته على جرائم ارتكبها أثناء حكمه فى حكم الوطن، جرائم واضحة للعيان.
والكتاب يروى قصة البحث عن هذا الوريث بالتفصيل.
وكان فيلاديمير بوتين هو من وقع عليه الاختيار، وكان أول قرار له، هو تحصين يلتسين وعائلته من الملاحقة، وفعل بوتين نفس الشىء، فبعد انتهاء فترتى حكمه، التى استمرت ثمانى سنوات، وقع اختياره على ميديديف.
∎ بوتين وخليفته
وكان بوتين أكثر تبجحًا، فقد اتفق مع خليفته، أن يكون هو رئيس الوزراء، وبعد انتهاء الفترة الأولى، يعيد إليه الأمانة.
وهذا ما حدث بالفعل، حيث عاد بوتين فى مارس 2012.
وقد أثار هذا العبث، حفيظة قطاعات واسعة من الشعب الروسى، وكما وصفته باحثة سياسية «إن هذه سادية فى حق الشعب الروسى».
ومن الطبيعى أن ينتشر الفساد، وسط هذه التركيبة، ويسود فى كل مكان، إلى درجة أن بوتين صرح يومًا أن مقاومة الفساد وتحجيمه أمر غير ممكن.
والاقتباس التالى عن مأساة الفساد، لأحد الباحثين الروس، فيه تصوير قوى: «عندما يكون والدك وزيرًا، منذ أكثر من عشر سنوات، يكون لديك الوقت لإنهاء دراستك، وأن تصبح نائب رئيس فى شركة مهمة، وهو منصب يشغله محترفون، ممن هم فى العقد الخامس من عمرهم فى بلدان الغرب».
لقد تم إرساء هذا النهج، بمكر وتدرج، معتمدًا على فزاعة التخويف من عودة العهد الشيوعى.
وجاءت عوائد البترول، وقدرات بوتين ومرونته ووعده بإعادة وضع الدولة الكبرى المؤثرة لروسيا، لتطبل فى عمر النظام.
ولكن الإحساس بأن هذا النهج، لا يلبى طموحات المواطنين، وليس هو النظام الذى تستحقه روسيا، يتزايد بوتيرة ملحوظة.
والمظاهرات الواسعة التى خرجت فى أواخر 2011، احتجاجًا على تزوير الانتخابات التشريعية، استعدادًا لقدوم بوتين بعد ميديديف، وصل هتافها «روسيا بدون بوتين» إلى أسماع الكريملن.
والقوى التى تحرك هذه المظاهرات، من خارج التركيبة السياسية، وعمادها جمهور الشباب واليسار والطبقات الوسطى.
وكأن السنوات التى تلت سقوط الشيوعية، إلى اليوم، هى مرحلة انتقالية.
والأجراس تدق إشارة إلى قرب انتهاء هذه المرحلة.
وإذا كانت هناك آراء ترى أن هذه المرحلة الانتقالية كان لابد منها، وهى تفتح الباب إلى ديمقراطية حقيقية، تقوم على تداول السلطة.
فهناك من يتخوف أنها يمكن أن تتحول أيضًا إلى نظام تسلطى، يعيد الاحتكار الكامل للسلطة.
والباحثة التى أشرنا إلى وصفها النظام بالسادية، كتبت أيضًا «إن هذه السلطة تفقد شرعيتها، لأنها تنوى البقاء حتى الموت، وبتصرفها هذا قد تفتح الطريق لحلول الربيع العربى فى روسيا».
وقد يكون من الصعب التنبؤ بالوقت والطريق، الذى سوف يشقه أبناء روسيا، للخلاص والتصحيح وتحقيق حلم النظام الذى يتمنونه.
ولكن يمكننى القول أن الربيع العربى لم يعد مثلاً يحتذى، ولم يعد ربيعًا، كما تأمل الباحثة الروسية.
والطريق إلى بناء ديمقراطية حقيقية، طويل وشاق ومتعرج، هنا وهناك.
وإذا كان هذا الكتاب يثير شهيتك للقراءة، فهو من إصدارات دار العين التى أسستها الدكتورة فاطمة البودى منذ وقت قريب ورسخت قدمها فى ميدان النشر والثقافة.
وجزء من نشاط الدار، إدارة صالون ثقافى حول الكتب وقضايا الثقافة.
وكان الصالون الأخير حول الكتاب.
وشارك فى مناقشته المؤلف عدد من نشطاء المثقفين، منهم الأساتذة: أحمد الخميس وعبدالمنعم رمضان ونبيل عبدالفتاح وأحمد بهاء الدين شعبان وخالد البرى وكاتب هذه السطور،وأحمد ندا محرر الدار.
وكانت الليلة فرصة طيبة للاستماع إلى شهادة المؤلف، وآراء المعلقين وطرق الخلاص هنا وهناك.