لم يبتسم للدعابة، كان صدره يؤلمه وكانت تعبيرات الألم تغطى وجهه.
أجابنى بجدية: «أنا كنت رايح لخالى المعادى، الحقيقة كنت رايح لسبب غريب شوية، أنا عندى قط، وأنا كان المفترض أسافر الفجر، فأخذت القط كنت عايز أسيبه عند خالى أثناء سفرى».
وراحت فين القطة؟ سأل المجتمعون حول سرير خالد باهتمام وتأثر.
فأجاب: مش عارف؟ آخر حاجة كنت سامع صوته بيصرخ من الخوف. رغم أن خالد داود لم يفقد الوعى طوال فترة الاعتدء على سيارته ثم عليه.. فإنه يخشى أن يظلم شخصا ويتهمه بأنه من ضربه بالمطواة أو من قطع أوتار يده ب«الكاتر»... يقول الأعداد كانت كبيرة والوجوه كثيرة..
ولأن خالد لم يفقد الوعى فهو يتذكر بوضوح كل الأصوات التى سمعها تقول.. «ده خالد داود، جبهة الإنقاذ، قتل إخواتنا فى رابعة، دم إخواتنا، يا كافر، لابس سلسلة، يا كافر، جبهة الخراب، اقطع له إيده الكافر» وصوت تحطيم زجاج السيارة وألفاظ بذيئة، وصراخ القط، وهدير هتاف بعيد.
أحدهم مدى يده وطعنه «بمطواة» طعنتين قريبتين من الرئة الشمال، والآخرى كان يحاول أن يقطع ذراعه «بكاتر» ملابس خالد الغارقة فى الدم، تذكره بأن أحد أطباء مستسشفى أطفال مصر التى لجأ إليها بمساعدة أهالى الحى لأنها الأقرب لمكان الحادث.
سأله: «إنت شاكك فى إننا مش عايزين نعالجك لأننا ملتحين»؟
فوجئ خالد إن الطبيب ملتحٍ، وأنه لن ينتبه لذلك فقال له: «أنا أصلا مش شايف غير الدم وعايزك تحاول توقف النزيف».
يحكى خالد هذا الحوار ويكمله بأسى «الحقيقة أنهم أنقذونى، لكن كانوا مترددين فى استقبالى لأن المستشفى أطفال وأنا كنت فاهم، لكن الدم كان بيندفع من صدرى، وهم قدروا خطورة الموقف وأنقذونى، ما لم أفهمه هو سؤال الشك إللى نبهني إن المفروض أشك».
موقف خالد داود من فض رابعة المعروف للكثيرين يبدو أنه غير معروف لجماهير الإخوان، وأيضا للجماهير غير الإخوان.
سألتنى أم محمد صاحبة الكشك القريب من بيتى مين يا أستاذة الصحفى إللى ضربوه المجرمين ربنا يهدهم، ده إللى من جبهة الإنقاذ والله بدعى له ربنا ينجيه.
قلت لها: «هو استقال من جبهة الإنقاذ يا أم محمد، هو دلوقتى المتحدث باسم حزب الدستور، تخيلى ده استقال لأنه اعترض على فض رابعة بالقوة «قاطعتنى بيدها، كادت تضعها على فمى وقالت: إيه؟ معترض على إيه؟ طب يستاهل إللى يجرى له بأه، خلاص بأه، كويس إنك قلتى لى عشان ما أزعلش».
حاولت إصلاح خطأى «ليه بس يا أم محمد؟ ليه كده؟ ده رأيه فى فض رابعة، لكن هو ضد الإخوان من زمان وعشان كده هم عرفوا شكله وضربوه وكانوا ممكن يقتلوه، دول أتكاتروا عليه»!!
فهمت أننى أحاول أن استدر عطفها فقاطعتنى بعصبية أكبر «خلاص يا أستاذة، قلت لك يستاهل، خلاص».
أنهت أم محمد النقاش
وفى حوار آخر لى مع صديقة تعمل موظفة حسابات فى شركة كبيرة، سألتنى من هو خالد داود ده معاهم؟ «تقصد الإخوان» قلت لها: «لأ طبعا».
قالت: «هو أتأخون.. أنا عارفة كده حاولت أن أشرح موقف خالد داود فاكتشفت أن الزمن لا يسمح إطلاقا بالمواقف المركبة، وأن الجماهير حتى المتعلمين والمهتمين لا يتحملون إلا المواقف الحادة الواضحة.
«معاهم» أو «معانا» وفقط وخالد داود الذى يذكر له الإخوان والتيارات الدينية مواقفه الرافضة هو نفسه الذى لا يذكر له التيار السائد والغالب إلا موقفه من فض رابعة.
كنت أتصور أن دماءه وما تعرض له من عنف ستدفع الطرفين لقليل من التأمل ومراقبة المواقف. واكتشفت أنه تصور ساذج.
قال لى طبيب صديق «تخيلى الدكتور «فلان» ده مش إخوان لكن متعاطف معاهم، بيقول «إن أكيد إللى ضربه مش إخوان، ده واحد منكم»، قلت له: الراجل لسه عايش وبيقول إن مسيرة إخوان رافعة أعلام عليها شارة رابعة أتجمعوا حول عربيته وكسروها وضربوه وكانوا عايزين يقتلوه، وإنتو بتنكروا إيه، طيب لو كان الراجل مات كنتم عملتوا إيه؟!
وتستمر الحوارات.. وتزداد الحدة.. ويزداد حزني.
قد يفقد خالد داود وظيفة أصابع كفه الشمال، وهذا ما يمكن تسميته حرفيا «قدر ولطف» فالحادثة كانت حادثة موت.
على باب حجرة خالد سمعت مدير المستشفى يقول للطبيبة الكبيرة التى كانت منتهية لتوها من فحص صدر خالد: «بس ما حدش عارف إيه إللى هيحصل بكرة».
تصورت أنه يتكلم معاها عن حالة خالد فسألته بلهفة «هو إيه إللى ممكن يحصل بكرة يا دكتور، حرارته ترتفع».
قال «لأ».. قصدى إللى هيحصل فى البلد بكرة 6 أكتوبر!!
فتبادر رئيسة التمريض قائلة «هيحصل زى إللى بيحصل».. ثم تحكى قصة مهندس يعمل فى الإدارة الهندسية فى المستشفى اسمه خالد لا علاقة له بأى اتجاه سياسى أصابه طلق نارى فى رأسه أثناء خروجه من المستشفى يوم 16 وتوفى.
سألتها: «هو كان فى إيه يوم 16»؟
أجابت: «يعنى هو كان إيه امبارح، ده العادى خلاص».
ثم تلتفت إلى الطبيبة قائلة: فاكراه يا دكتورة، المهندس خالد.. اتقتل».