مشهد مهيب يحرك كل وجدان ويهز أي كيان جعل القلب يرتجف والعين تدمع ويدفع اللسان للهتاف طواعية هو ذلك السيل المنجرف من المتظاهرين الذي ازدهرت به المسيرة القادمة من ميدان المطرية التي أغلقت شارع القبة. بميدان روكسي- محل إقامتي- بداية من قصر الطاهرة - المخصص لاستقبال وإقامة الوزراء الأجانب - مرورا بمستشفي الجنزوري وصولا إلي صيدلية العزبي الشهيرة ومعرض سيارات أبوغالي انتهاء بمحل العبودي وميدان روكسي.. طوفان من البشر باختلاف أعمارهم وشرائحهم الاجتماعية ودياناتهم كلما ظننت أن هذا الطوفان شارف علي الانتهاء تشعر وكأن الشارع يطلب «هل من مزيد». مشهد يصعب علي أي شخص مهما ارتفع ثباته الانفعالي ومهما زادت قدرة مقاومته أن يكبح جماح نفسه أو أن يطاوعها ولا ينضم إلي صفوف هؤلاء المصريين الوطنيين الذين يعبرون بمنتهي التحضر والسلمية عن مطالبهم. نزلت وانضممت إلي هذه الجموع الغفيرة رأيت السيدات المسنات وهن يتعكزن علي بعضهن.. رأيت الفتاة الشابة التي انكسرت ساقها ومع ذلك نزلت بعكازها وشاركت مع أبيها وسائر عائلتها في تلك الفعاليات. في حماية رجالة! سرت مثلي مثل الآلاف من الفتيات والنساء والأطفال.. كلنا رفعنا العلم وهتفنا بسقوط حكم الإخوان.. ووسط كل هذه الهتافات الصاخبة علا صوت واحد لشاب في الثلاثين من عمره وإذا به يطلب من كل النساء الدخول في وسط المسيرة وطلب من الرجال أن تتشابك أيديهم ويحيطون النساء بكردون أمني مؤلف منهم خوفا وحرصا منهم علي النساء والفتيات من أي تحرش أو مضايقة.. والأمر لا يمنع أنه أثناء تلك المسيرة أن تستمع إلي همسات بعض الفتيات لبعضهن البعض فقالت واحدة لصديقتها: «أديني جبتك أهو المظاهرات عايزاكي تعيشي اللحظة». الشرطة والشعب إيد واحدة عندما وصلت المسيرة إلي محل العبودي وسط ميدان روكسي وكانت في طريقها إلي قصر الاتحادية كان لزاما علي خط سير المسيرة أن تمر بنقطة شرطة مصر الجديدة وهنا رأيت مشهدا غاب عن أنظارنا لمدة سنين وسنين.. فثورة يناير قامت في الأساس من أجل مواجهة الشرطة المستبدة القمعية، ولكن أثناء هذه المسيرة وجدنا العديد من شباب الثورة يلتقطون بعض الصور مع ضباط وأمناء شرطة النقطة الذين انضموا بدورهم إلي جموع الشعب الثائر وحملوا لافتات مدونا عليها: ارحل وكروت حمراء للرئيس مرسي وحملوا علم مصر فانهال عليهم الشباب بالقبل والعناق وسجلوا هذه اللحظة الفارقة بصور علي هواتفهم المحمولة. شركاء الوطن قال لي أحد أصدقائي الإخوان إن الحشد الحقيقي سيتحقق إذا نزلت أعداد كبيرة من المسيحيين إلي الاتحادية باعتبار أن الكنيسة من أكثر المؤسسات تنظيما ولديها قدرة فائقة علي الحشد والدفع بالأقباط إلي النزول والمشاركة في المظاهرات.. وأنا أحب أن أطمئن صديقي الإخواني أن الاتحادية امتلأت عن بكرة أبيها بأعداد غفيرة من المسيحيين.. الأقباط شركاؤنا في الوطن، بل نزل منهم من ينتمي إلي حزب الكنبة ومن لا ينتمي منهم إلي أي نشاط سياسي أو من لم يشارك في الثورة من الأساس لدرجة أن واحدة من بين هذه الأعداد التي لا حصر لها من الأقباط قالت لي: «أنا أول مرة في حياتي أنزل مظاهرات وقبل ما أنزل قلبي كان بيدق بأحاسيس مختلفة (خوف وفرحة ولهفة) بجد إحساس لا يوصف لأول مرة أفهم أنا نازله ليه وعايزة إيه. الجيش والشعب كما عهدنا في المظاهرات تنقسم الناس إلي مجموعات كل يهتف بما يروق له وكل مجموعة تكون لها شعاراتها الخاصة وكانت هناك مجموعة تهتف من أجل الجيش مثل «انزل يا سيسي مرسي مش رئيسي» والهتاف الأشهر «الجيش والشعب ايد واحدة».. فظهر شاب في الثلاثين من عمره وصرخ في وجه المتظاهرين قائلا: «لو سمحتوا انتوا مانزلتوش المظاهرات قبل كده ولا شاركتوا في ثورة 52 يناير فلا يصح أن تهتفوا مثل هذه الهتافات فنحن الذين نزلنا قبل ذلك وطالبنا بإسقاط حكم العسكر.. عايز تهتف اهتف بإسقاط حكم الإخوان». ولكن رغم كل ذلك كان المتظاهرون كلما رأوا طائرات القوات المسلحة وهي تحلق فوق سماء الاتحادية يتعالي صياحهم وتهليلهم وكأن المصريين لا يزالون يرون أن القوات المسلحة هي طوق النجاة والملاذ الأخير لهم بعد حكم الإخوان. امسك تحرش طابور طويل يتكون من شاب وفتاة ثم شاب وفتاة الكل يرتدي تي شيرت مكتوب عليها «امسك تحرش» أو كاب مدون عليه «حد اتحرش بيك» .. فتيات زي القمر يسرن في حماية شباب زي الورد؛ وقفت إحداهن قائلة: «لا تذهبي إلي البوابة الرابعة أمام قصر الاتحادية (فالدنيا هناك زحمة .. عشان ماحدش يتحرش بيكي)».. قالت رسالتها ثم انصرفت لتنصح بنات أخريات. المياه فيها سم قاتل مسيرة أخري كانت قادمة من ناحية أحد الكافيهات الشهيرة ووقف شاب مسديا النصح لأختي : «اوعي تاخدي ميه من حد ماتعرفهوش؛ المياه مسممة عايزة تشربي مايه اشتري من الأكشاك غير كده بلاش». التوك توك وصل مصر الجديدة لأننا من زمان من سكان مصر الجديدة فكان من الصعب إننا نشوف توك توك في أي شارع من شوارع هذا الحي الراقي ولكن طبعا بعد الخطاب الشهير للرئيس مرسي من أمام الاتحادية الذي خاطب فيه أهله وعشيرته سائقي الميكروباص والتوك توك فهؤلاء علي وجه الخصوص جاءوا «بتكاتكهم» أمام قصر الاتحادية أيضا ليقولوا للرئيس رغم أننا من أهلك وعشيرتك لكن بنقولك «ارحل» وكان ذلك واضحا من خلال علم مصر («بالحجم الجامبو» اللي هو أكبر من التوك توك نفسه) الذي زين التوك توك وسط بوسترات وملصقات مكتوب عليها «ارحل باللون الأحمر». Wanted انتشرت بشدة اثناء المسيرات أحد الملصقات المرسوم عليها صورة الرئيس مرسي خلف القضبان ومكتوب أسفل البانر بالإنجليزية wanted وبالعربية «هارب من السجن يوم 82-1-1102 » وكانت تلاقي هذه الصورة صدي كبيرا لدي المتظاهرين فكل من رأي هذا الملصق أبدي تعليقه الخاص به و( كل تعليق في الحقيقة أنقح من التاني بس الرقابة تمنع كتابته) بل كانوا يوزعون الشهادة التي تثبت هروب الرئيس مرسي من السجن! استعدادات قصوي استعدادا لزحف المتظاهرين إلي الاتحادية قامت المحلات باستعدادات وقائية تحسبا لاندلاع أي اشتباكات بين المؤيدين والمعارضين فأغلقت جميع المحلات التجارية - فيما عدا محلات التيك أواي- كل أبوابها و«فيتريناتها» بالأبواب الحديدية ووضعت الفوم علي الفاترينات تجنبا لتكسيره بالطوب. لم يقف الموقف عند هذا الحد، بل حرصت مدرسة الكمال الابتدائية الملاصقة للشارع المؤدي إلي قصر الاتحادية أن تعلق بانر أمام المدرسة مرسوم عليه صورة لطلاب وطالبات المدرسة من الأطفال ومكتوب عليه «أطفال مدرسة الكمال الابتدائية يناشدون المتظاهرين بالحفاظ علي مدرستنا». حتي أسوان في وسط اليوم جاءت مسيرة أخري من بعض سكان محافظة أسوان وكتبوا علي لوحة كبيرة «أهالي محافظة أسوان جاءوا ليقولوا ارحل يا مرسي وانزل من علي الكرسي».