كم يضيع من عمر المصريين أمام الطوابير.. فقد أصبح الطابور فرضًا على كل مصرى أصيل.. وأصبح بينه وبين الطابور عشرة بل انتماء للطابور ولشركائه فيه.. بعد أيام أو أسابيع فيه تجدهم يسألون عن بعضهم البعض لو مثلا اختفى رفيق من رفقاء الطابور.. هو فلان اللى كان بيقف وراك فين ماجاش ليه النهاردة؟ لعل المانع خير! وبالتدريج يصبحون كأهل البيت أو بالأصح كمصارين البطن اللى بتتعارك.. ففجأة تنشب خناقة لرب السما يمكن على الدور يمكن على السلعة المطلوبة فى النهاية ممكن توصل لرفع المطاوى وسقوط أحدهم شهيدًا للطابور ولكن ليس بسبب الإصابة إنما لأنه لن يجد أحداً يأخذه للإسعاف فلا يوجد من يضحى بدوره حتى لإنقاذ رفيق درب كفاح طوابير مصر المحروسة.. قد تعتقدون أننى أسخر أو أمزح ولكنى بالفعل عايشت هؤلاء الواقفين فى هذه الطوابير وسمعت قصص منيضيع عمرهم فيه انتظارا.. لجركن سولار أو رغيف عيش (بمسامير أو من غير مسامير ليس هذا هو المهم المهم هو أن يجدوه ويحصلوا عليه).
∎السولار
تحت حرارة الشمس الحارقة اصطفت عربات النقل والميكروباص المحملة إما بالآلات الثقيلة أو بالخضراوات والفاكهة.. جلس بداخلها السائقون لساعات طويلة.. ظهر على وجوههم التعب والإرهاق.. حتى أن بعضهم كان نائما بداخلها.. منتظرين الفرج أى وصول السولار لتعبئة سياراتهم ليبدأ بعد كل ذلك يوم طويل من الشقاء يقودون فيه شاحناتهم من بلد لبلد أو من محافظة لمحافظة أخرى.
اقتربت من سائق شاحنة كبيرة (تريللا) وتحدثت مع سائقها (عم أحمد) الذى بدا عليه الضعف والإنهاك وسألته: واقف مستنى السولار من إمتى؟ ابتسم ساخرا وسألنى: تتخيلى حضرتك من إمتى؟ فقلت له ساعتين؟ فضحك وقال: أنا واقف هنا من الفجر والله.. لأن الآلات اللى أنا محملها لازم توصل أسوان النهاردة.. وهوالظهر أذن من ساعة وأنا لسة واقف مستنى.. فسألته: أومال بتروح ترتاح إمتى؟ فأجاب: تصدقى بالله أنا ما شفت عيالى بقالى جمعة.. ولا أكلت أكلة سخنة ولا حتى عديت عليهم أجرة البيت وكل أما يكلمونى أقول لهم بكرة.. أصل وقف الحال اللى إحنا فيه ده مخلى الحال ضنك بعيد عنك.. بقيت بتكسف من أم العيال من كتر ما بقول مفيش.. الواحد بقى حاسس لا مؤاخذة إنه مش راجل.. وكل يوم أقول بكرة تروق وتحلى لكن كل يوم أسوأ من امبارح ومش عارف هنروح على فين بعد كده.
فسألته: ما حاولتش تجيب سولار من السوق السودة زى ما بيقولوا؟ فرد على ضاحكا: طبعا بيحصل بس فى المحافظات وبندفع زيادة عن السعر العادى يعنى الجركن بيعمل 04 أو 54 جنيهًا بدلا من 22 جنيهًا.
أثناء حديثى معه اقترب منى شاب نحيف «أمين» كان يسترق السمع أثناء وقوفه بجانب الميكروباص الخاص به منتظرا وصول السولار وقال: أنا عايز أقول لحضرتك إن أغلبالبنزينات دلوقتى بتزود ميه على السولار والعربية بتشرق وده السبب فى أن إحنا بنقصد بنزينة بعينها نكون واثقين فيها وعشان كده الطوابير بتزيد وممكن نقضى يوم كامل قدام المحطة.. من يومين سواق نص نقل أغمى عليه هنا.. جاله ضربة شمس من الوقفة وماكنش حد عايز يتحرك عشان نوديه أقرب مستشفى.. الكل خايف يخسر مكانه.. لأنه عارف إنه لو خسره هيخسر يوم تانى ويومية هتضيع وبضاعة هتبوظ.. يعنى الجدعنة هتتسبب فى خراب بيوت.. أنا نفسى بقيت خايف يحصلى حاجة ما لاقيش اللى يلحقنى وأفضل مرمى على الأرض.. فسألته أنت واقف فى المحطة من امتى؟
الغريبة أنه أعطانى نفس رد فعل «عم أحمد» وابتسم ساخرا ثم قال من امبارح!! فأنا أعمل فى القاهرةالجديدة ولكنى أحضر من القليوبية وفى كثير من الأحيان لا أنام فى بيتى ولا أرى أمى المريضة ولكن الحمد لله رزقنى القدر بزوجة ترعاها.. وأظل أفكر طول اليوم كيف أعوض عليهاغيابى وتعبها مع أمى.. لدرجة أننى أفكر فى تغيير عملى ولكنى دبلوم تجارة وأى عمل لن يوفى احتياجاتى وأسرتى وأدوية أمى.. فأنا أعمل على هذا الميكروباص فى القاهرةالجديدة وكان قبل أزمة السولار الرزق واسع وكنت بقضى وقت مع أهلى ولكن بعد الأزمة تقريبا لا أراهم.. وربنا يعدى الأيام دى على خير.
أصابنى حديث أمين بصدمة وخوف من الغد القريب.. اليوم الذى سيأتى علينا تشغلنا مصالحنا ولقمة العيش عن مراعاة بعضنا البعض وتقتل الحاجة إحساسنا بالآخر والرحمة فى قلوبنا.
∎رغيف العيش
الساعة السابعة صباحا.. الشوارع تكاد تكون خالية من الناس إلا أمام كشك صغير مغلق!! كشك لبيع رغيف العيش المدعم.. وقف أمامه طابور أغلبهم نساء وأطفال.. لم أصدق عينى بأننى أرى هذا المشهد فى 2013 بعد الثورة التى قامت من أجل العيش!! كما أن هذا المشهد مألوف بالنسبة لى فقد كنت أراه وأنا ذاهبة يوميا لمدرستى وكنت أتساءل لم يقف هؤلاء الأطفال أمام هذا الكشك ولا يركبون باص المدرسة مثلى.. أى أننى كنت أرى هذا المشهد منذ أكثر من 15 سنة.. ولكنى لم أكن أدرك أن التعليم بالنسبة لهؤلاء الأطفال رفاهية وأنه وسيلة من وسائل توفير لقمة العيش لأهلهم.
كان طابور العيش طويلاً ولم يكن من بين الواقفين به أى شخص يظهر عليه أنه حتى من الطبقة المتوسطة لكنهم كانوا جميعا «غلابة» بمعنى الكلمة سيدات يقفن بجلبابهن الأسود والطرحة السوداء.. تظهر عليهم أصولهم القروية والأطفال يقف بعضهم شبه نائم مستنداً على سور الكشك منتظرا.
أحمد 8 سنوات اقتربت منه وهو لا يرانى تقريبا من شدة رغبته فى النعاس وسألته هو أنت مش بتروح مدرسة يا أحمد؟ فرد قائلا: بروح بس بعد ما أجيب العيش.. فسألته وبابا فين؟ فقال: أبويا شغال «بنا» بيطلع من صباحية ربنا.. وأمى بتمسح سلالم العمارة.. وأنا وأخواتى هنا بنجيب العيش وبعد كدة بنطلع على المدرسة وكل مرة بنروح متأخرين.. فسألته أنت وإخواتك ليه؟ عشان ما بيرضوش يصرفوا للفرد أكتر من عشرة أرغفة.. واحنا «هو وأخوته الخمسة ووالده ووالدته» بنحتاج أكتر من كده.
اتجهت بعد ذلك لسيدة جالسة على الرصيف يتعدى عمرها الخمس وخمسين عاما تسند رأسها على العمود الذى خرجت منه الأسلاك العارية ولكنها من التعب لم تدرك هذا سألتها لماذا تقفون مبكرا قبل حتى أن يفتح الكشك.. فقالت: «لو ما وقفتش دلوقت مش هلحق العيش.. وكمان مش هسلم من الخناق والعافية» - يعنى إيه عافية يا حاجة ؟ - «يعنى الناس اللى واخدة الدنيا بالدراع.. وأنا ست كبيرة مش هستحمل «زقة» ولا ضربة مطوة.. فضحكت وتخيلت أنها تمزح معى فإذا بها تنظر لى وكأنها تقول «بتضحكى على إيه يا هبلة؟» فأدركت أنها تتحدث بجدية.. فسألتها: هل حدث هذا بالفعل؟ - ده حصل قدام عينى ومات شاب زى الورد عشان خمسة أرغفة والله فضلت شهر راقدة فى البيتومش قادرة آجى لكن أعمل إيه صدق اللى قال «أكل العيش مر».