لم يكد الشعب يفيق من صدمة الإعلان الدستورى «المكبل» الذى ركز السلطات الثلاث فى يد رئيس الجمهورية لأول مرة فى تاريخ النظام السياسى الحديث ولم تحدث حتى فى عهد الملكية أن جمع الحاكم السلطات الثلاث فى يده.. ولم يكد يحدث هذا إلا وفاجأ الرئيس الشعب بصدمة أخرى بدعوة الناخبين للاستفتاء على مشروع الدستور الجديد بعد إقراره وسلقه من الجمعية التأسيسية فى ليلة واحدة دون حتى أن يقرأ مواد الدستور الجديد أو يراجعه مع الجمعية التأسيسية أو يتناقش فى مواده مع القوى الليبرالية والثورية والمنسحبين من الجمعية ليتعرف بنفسه على أوجه الخلاف التى قسمت الفصائل السياسية بهذه الطريقة وجعلت القوى الدينية فى جانب..والقوى المدنية والليبرالية والثورية فى جانب آخر.. وكأنه بذلك يتحدى كل الفصائل الأخرى بالإصرار على المضى فى الطريق الذى رسمته له الجماعة، والغريب أنه بعد أن نفذ كل ما أراد يطرح مبادرة للحوار مع كل القوى الوطنية الأخرى للخروج من المرحلة الانتقالية.
الرئيس مازال يصر على علاج الأخطاء بالأخطاء وليس إصلاحها.. فهو يدعو الشعب للاستفتاء ويخيره بين شرين وأمرين أحلاهما مر.. الأول إما أن يقبل الشعب الموافقة على الدستور فيسقط الإعلان الدستورى من تلقاء نفسه.. وإما أن يرفض الشعب الموافقة فيستمر العمل بالإعلان الدستورى المكبل مدة أخرى لا يعلم مداها إلا الله بعد أن يعاد تشكيل الجمعية التأسيسية ويتم وضع دستور آخر.. أى أنه يدعو للاستفتاء على الدستور تحت سيف الإعلان الدستورى.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد.. بل قامت الجماعة بحشد أنصارها - وهم ناجحون فى هذا جدا- من كل محافظات الجمهورية وشحنهم فى أتوبيسات فى مليونية جامعة القاهرة.. مساندة للرئيس فى قراراته وإعلانه الدستورى ودستوره بدعوى الاستقرار.. كل هذا حقهم.. فهم فى النهاية مدربون على السمع والطاعة دون وعى أو فهم أو مناقشة.. ولكن الأخطر هو ما قاموا به بالمبيت أمام المحكمة الدستورية العليا ومنعها من الانعقاد حتى لاتصدر أحكاما بإلغاء التأسيسية أو مجلس الشورى كما كان مشاعا بينهم فى بلطجة وإرهاب لم يسبق لهما مثيل، ورغم أن قيادات الإخوان التى غابت متعمدة عن المشهد فى مليونية جامعة القاهرة وأكدوا أن من كانوا فى المليونية أو الذين حاصروا الدستورية ليسوا من الإخوان ولكنهم من عامة الشعب وهو كذب وأمر يثير العجب والاستغراب لأن المحتشدين كلهم من الإخوان من كل المحافظات.. ومعظمهم أساسا لا يعرف لماذا جاء ولماذا تم الدفع به فى هذا الأمر الذى يقسم البلاد.. ولكنها أوامر الجماعة والمرشد وكل هذا مسجل ومذاع على كل الفضائيات ومنشور أيضا.. هم دائما يكذبون للنهاية حتى يحققوا أهدافهم مهما دفع الشعب والناس من ثمن.
ومن المؤكد أن الأمور ازدادت تعقيدا واشتعالا بعد رفض القضاة الإشراف على الاستفتاء وإعلانهم ذلك ردا على الإعلان الدستورى.. وعلى ما حدث أمام الدستورية العليا.. ورغم وجود مفاوضات بين مجلس القضاء الأعلى ومؤسسة الرئاسة لإعادة إشراف القضاء على الاستفتاء إلا أن لا أحد يعرف إلى أى مدى ستسير الأزمة.
ولكن من المؤكد للجميع أن نتيجة الاستفتاء معروفة ومؤكدة مسبقا.. وهى الموافقة على الدستور بكل عوراته وكل ظلاميته.. وسلبه للحريات والحقوق وكل مواده التى تصنع ديكتاتورا جديدا أشد ممن قبله.. فالتزوير هنا سيكون سيد الموقف كالعادة.. فالاستفتاء على الدستور بهذه الطريقة كما قال د.جابر نصار دون التوافق ينزع عنه الشرعية السياسية.. والاستفتاء عليه بدون إشراف القضاء ينزع عنه الشرعية الدستورية.
الدستور الذى سيستفتى عليه الشعب هو أسوأ دستور تشهده مصر.. وكل مواده تؤكد ذلك وسوف يكتب التاريخ ويشهد على كل من شارك فى وضع هذا الدستور الذى يمثل ردة حقيقية عن كل الدساتير السابقة وحتى دستور 17 الذى أسقطه المجلس العسكرى هو أكثر ديمقراطية من هذا الدستور الفاشى.. سيحكم التاريخ على كل من شارك ووقع على هذا الدستور.. وأنا لا ألوم القوى الدينية التى وضعت هذا الدستور تحت مظلة شرع الله وكأننا كفار قريش يريدون لنا الهداية ولكن ألوم بشدة كل القوى المدنية والمتأخونين الذين شاركوا فى هذه الجريمة وباعوا الشعب لصالح الإخوان.. وباعوا الوطن ووحدته وتجانسه لصالح القوى الظلامية التى تريد أن تحكم مصر.
إن هناك العديد من المواد التى لو ذكرت العوار الذى فيها سأحتاج إلى مجلدات.. ولكن أختار هنا بعض المواد المضحكة التى يناقض بعضها البعض فى مواد الدستور.. مثلا فى المادة السادسة يقول جهابذة التشريع: يقوم النظام السياسى على مبادئ الديمقراطية والشورى والمواطنة.. وأنا هنا أحب أن أفهم ما معنى الديمقراطية.. والشورى.. فالديمقراطية نظام حكم.. والشورى نظام حكم آخر.. فهو هنا يجمع بين نظامين فى الحكم متناقضين.. ثم لم يحدد معنى الشورى.. ومن هم الذين سيستشاورن ومن الذى سيحددهم... ثم ماذا لو تعارضت مبادئ الديمقراطية مع الشورى.. ثم فى نهاية المادة أكد أنه لا يجوز قيام حزب سياسى على أساس التفرقة بين المواطنين بسبب الجنس أو الأصل أو الدين.. وهو هنا يفتح الباب لقيام أحزاب على أساس دينى الذى كان محظورا من قبل، لذا من حق المسيحيين تكوين أحزاب سياسية.. ومن حق البهائيين مثلا إنشاء حزب سياسى وخلافه.
أيضا فى الفصل الثالث الخاص بالمقومات الاقتصادية لم يبين الدستور هوية الدولة الاقتصادية.. وما إذا كان النظام الاقتصادى المصرى اشتراكيا أم رأسماليا أم تعاونيا أم مزيجا من الرأسمالية والاشتراكية.. هو كلام عام.. أما فى المادة 48 فى الحقوق المدنية والسياسية والمتعلقة بحرية الصحافة فقد أخذ باليمين ما أعطاه بالشمال.. فالمادة أكدت أن حرية الصحافة والطباعة والنشر ووسائل الإعلام مكفولة وتؤدى رسالتها بحرية واستقلال لخدمة المجتمع والتعبير عن اتجاهات الرأى العام والإسهام فى تكوينه وتوجيهه.. إلى هنا والكلام مقبول، أما باقى المادة فتقول فى إطار المقومات الأساسية للدولة والمجتمع والحفاظ على الحقوق والحريات والواجبات العامة واحترام حرمة الحياة الخاصة للمواطنين ومقتضيات الأمن القومى، وليسمح لى أحد من الذين وضعوا هذه المادة من الذى سيحدد كل هذه المقومات والحقوق والحريات؟ ثم لماذا تم التغاضى عن إلغاء حبس الصحفيين فى جرائم النشر مثل الديمقراطيات العريقة وهو نص وعد به الإخوان وأعضاء التأسيسية قبل وضع الدستور؟!
وفى المادة 15 أعطى المشرع الحق بحل الجمعيات والمؤسسات الأهلية بحكم قضائى وليس حل مجلس إدارتها.. أى أن أى جمعية أو ناد يمكن حله كله بنص الدستور وليس حل مجلس إدارته.. وهو ما يفتح الباب لحل أندية القضاة مثلا والمؤسسات الأخرى إذا ما خرجت عن طوع الحاكم أو الحكومة.. أيضا كان من المتوقع أن يقلص الدستور الجديد صلاحيات رئيس الجمهورية، ولكن للأسف وضع الدستور أكثر من 26مادة تتعلق بصلاحيات رئيس الجمهورية، ورغم أنه رئيس السلطة التنفيذية، فإنه وضع ليكون حكما بين السلطات وحصنه الدستور من المساءلة عن أعمال الحكومة التى حصلت فقط على صلاحيات محدودة، والغريب أن الذى يتولى رئاسة الدولة فى حالة عجز رئيس الجمهورية هو رئيس الوزراء؟!
فى المادة 198 الخاصة بالقضاء العسكرى كيف يكون القضاء العسكرى مستقلا ويقوم وزير الدفاع بتعيينه؟!
أيضا فى المادة الخاصة بالانتخابات التشريعية والإصرار على أن تكون الانتخابات بالقوائم والفردى، والسماح للأفراد بالترشح على القوائم والعكس، فهذه المادة أبطلتها المحكمة الدستورية العليا، وعلى أساسها حل مجلس الشعب السابق، وكان يجب حل مجلس الشورى، والإخوان والسلفيون أقروها فى الدستور رغم أنها غير دستورية حتى لو وضعت فى الدستور لأنها تخل بمبدأ تكافؤ الفرص.. فكيف يمكن للفرد أن يواجه الأحزاب والتحالفات فى القائمة.. فى المقاعد الفردية وكيف يمكن للأفراد فى قائمة واحدة مواجهة الأحزاب والتحالفات الحزبية فى انتخابات القائمة؟!
هذه عينة من مواد الدستور الذى سيطرح للاستفتاء ونتيجته معروفة مسبقا ومعظم مواد هذا الدستور تقريبا فيها ألغام تنسف الدستور من أساسه فهو دستور وضع لفئة واحدة تريد أن تسيطر وتحكم سيطرتها على مفاصل البلاد وعلى كل السلطات لنكون فى النهاية أمام حكم الجماعة والحاكم بأمره.. ولا راد لقضاء الله إلا هو.