مازالت لعبة القط والفأر تتم بنجاح ساحق وتطور سريع بين مؤسسة القضاء.. ودولة الإخوان متمثلة فى ذراعيها السياسيين: مؤسسة الرئاسة والمؤسسة التشريعية بغرفتيها «الشعب» و«الشورى».. فمن كان يستطيع أن يتصور وأن يتخيل أن يصل الصراع والصدام إلى هذا الحد! ومن كان يتوقع أن يصل الصدام بين سلطة القضاء ومؤسسة الرئاسة بالتحديد وعلى رأسها الرئيس الذى هو حكم وفيصل بين السلطات إلى هذا المستوى الغريب الذى لم يسبق له مثيل فى مصر.. ولا حتى فى الديمقراطيات الأخرى. كيف يمكن أن يصبح الرئيس طرفا فى صراع بين مؤسسات هو حكم بينها.. وكيف يختار أن ينحاز إلى مؤسسة على حساب أخرى.. خاصة إذا كانت السلطة الأخرى هى سلطة القضاء الذى يحظى باستقلالية واحترام ومصداقية ليس لها مثيل على مستوى العالم.. وكل هذا للأسف بسبب جماعة الإخوان والمرشد ومكتب شورى الإخوان.. وجناحها السياسى حزب الحرية والعدالة، وهو الذى قام بتصعيد الصدام والصراع إلى هذا الحد للاستحواذ على السلطة والحكم فى مصر.. وللأسف الذى يدفع الثمن هو مصر وشعبها ومسيرة الديمقراطية بها.
الغريب أن طرف الصراع الأصيل الذى كان من المتوقع أن يكون فى المواجهة هو المجلس العسكرى الذى كان منوطا به إدارة شئون البلاد فى المرحلة الانتقالية.. خرج من هذا الصدام والصراع بعد أن سلم السلطة المدنية فعلا إلى الرئيس المنتخب، ورغم محاولات القوى السياسية جره إلى الصدام دفاعا عن الإعلان الدستورى المكمل.. وسلطة التشريع التى انتقلت إليه بعد الحكم بعدم دستورية مجلس الشعب.. إلا أنه رفض.. وفضل أن يخرج من هذه الدائرة.. ويترك المؤسسات المدنية وجها لوجه.. وهذا ما توقعناه فى العدد السابق أن العسكرى سيخرج من الصدام لأنه ليس له ناقة ولا جمل فيه.. والمشكلة كلها ستكون بين مؤسسة القضاء والرئاسة وحزب الحرية والعدالة، وهو ما حدث بإلغاء قرار رئيس الجمهورية بعودة مجلس الشعب المنحل بقوة القانون .
والحقيقة أنه رغم محاولات عودة مجلس الشعب المنحل عن طريق تحويل الحكم إلى محكمة النقض.. إلا أن رد محكمة النقض كان صفعة أخرى تضاف إلى صفعة الدستورية، إذ قررت المحكمة أنه لا اختصاص لها فى هذا وأعادته للدستورية مرة أخرى.. والحقيقة أن جماعة الإخوان التى تحرك الكثير من الأذرع إما أنها تجهل القانون والدستور.. أو تعلمه جيدا، ولكنها «تناور» وبالبلدى «تستعبط»، فالنقض يختص فقط بالنظر فى صحة العضوية لكل عضو منفردا.. أما الدستورية فتنظر فى دستورية قانون الانتخابات ككل وليس فرديا.. وعلى أساس ذلك كله تم الحكم بانعدام المجلس.
وفى السياق هنا أريد أن أذكر حادثة صغيرة وقعت فى بريطانيا أيام الحرب العالمية الثانية، وهى أنه كان هناك مطار حربى بقرب بلدة صغيرة.. وكان وجود هذا المطار يمثل خطرا كبيرا على سكان البلدة.. فأقاموا دعوى أمام القضاء لغلق المطار نهائيا لأنه يتعرض لهجمات وقصف جوى يهدد السكان والمدينة الآمنة وضرورة نقله إلى مكان آخر.. وحكمت المحكمة لصالح السكان وقضت بغلق المطار ونقله.. ورفضت وزارة الدفاع تنفيذ الحكم لأن بريطانيا كانت فى حالة حرب والضرورة القصوى تقضى بوجود المطار الحربى.. إلا أن ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا قال كلمته الشهيرة «إنه أشرف لبريطانيا أن تخسر الحرب من أن ترفض تنفيذ حكم محكمة.. وتعلى كلمة القانون».
هؤلاء هم «الغرب».. غير الإسلاميين ونحن أولى بذلك منهم لأننا دين عدل وعدالة.. والعدل اسم من أسماء الله الحسنى.. ولذا علينا أن نحترم أحكام القضاء وألا نلتف عليها. إنه للأسف واستمرارا لهذا المسلسل الممنهج من جماعة الإخوان قام الرئيس أيضا واستباقا لحكم القضاء غدا ببطلان التأسيسية بالتصديق على قانون معايير التأسيسية الذى صدر عن مجلس الشعب قبل حله، وذلك حتى تأخذ إجراءات التقاضى شكلا آخر.. وأيضا استباقا لهذا الحكم غدا قدم أعضاء مجلس الشورى المنتخبون فى الجمعية التأسيسية استقالاتهم من الجمعية لتفويت الفرصة على القضاء فى قول كلمة الفصل بشأن قانونية هذه الجمعية.. وهذا حدث على اعتبار أن أعضاء مجلس الشعب الموجودين فى التأسيسية لم يصبحوا أعضاء برلمان بعد وتم حل البرلمان.. وأنا أريد أن أسأل: ما كان من الأول ولماذا هذا الإصرار العنيد والمستفز من جماعة الإخوان المسلمين على الاستحواذ والاستئثار ولماذا الإصرار على مبدأ المغالبة لا المشاركة والإصرار أيضا على أنه «فيها يا أخفيها». القضاء قال كلمته فى المرة الأولى وأبطل التأسيسية الأولى، وجاء حزبا الحرية والعدالة والنور ليضربا بهذه الأحكام عرض الحائط ويصرا على وجود نواب منهما فى التأسيسية وبأغلبية 85 عضوا حتى يضمنا الأغلبية فى التصويت الثانى على مواد الدستور.
إن محاولة تحصين الجمعية التأسيسية الثانية قد تحدث.. وقد لا تحدث لو رأت المحكمة أن هذه الإجراءات الاستباقية من الرئيس من ناحية، ونواب الإخوان والسلفيين من ناحية أخرى لم تغير فى الموضوع وقد تحكم فعلا ببطلان التأسيسية، ووقتها سندخل فى صدام من نوع آخر.. ثم هناك معضلة أخرى أو فزاعة أخرى يطلقها الإخوان والسلفيون ومن ورائهم بعض القوى التى تدعى الثورية، وهى الرفض التام لأن يقوم المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتشكيل الجمعية التأسيسية.. ووضعونا فى خيارين: هل تكون الجمعية التأسيسية المنتخبة من البرلمان المنحل كجهة منتخبة وبها كل هذا العوار أفضل، أم تكون هناك جمعية تأسيسية مشكلة من سلطة غير منتخبة مثل المجلس العسكرى؟.. ولست أدرى ما سر هذه الفزاعة سوى رغبة الإخوان والسلفيين فى الاستحواذ على الجمعية التأسيسية وأزيد أيضا أنه فى ظل المجلس الأعلى للقوات المسلحة وحكم العسكر الذين يهاجمونه ليل نهار تمت أنزه وأشرف انتخابات برلمانية شعب وشورى.. وتمت أيضا أنزه وأشرف انتخابات رئاسية.. ولولا القوات المسلحة ومظلة الجيش التى جرت تحتها هذه الانتخابات لما جاء الإخوان والسلفيون ليكونوا أغلبية فى البرلمان.. وأيضا لما جاء مرسى رئيسا للجمهورية.. فقد أدار العسكرى الانتخابات أفضل وأنزه وأشرف ألف مرة من الانتخابات التى تمت تحت الحكم المدنى ووزارة الداخلية فى ال 03 سنة الماضية.. والحقيقة أنه إذا كان هناك خطأ للعسكرى فى المرحلة الانتقالية فهو بالتأكيد الإعلان الدستورى الأول الذى خرج بمباركة الإخوان.. وكان الأولى أن ترد المواد المعدلة بالاستفتاء إلى دستور 17 وإعادته ثم تعديل مواده بعد ذلك خاصة فيما يتعلق بباب صلاحيات الرئيس.
ثم هناك نقطة أخرى وهى من المسئول عن المأزق الذى نحن فيه الآن؟.. ألم يأخذ مجلسا الشعب والشورى وقتهما من 71 مارس الماضى لانتخاب الجمعية التأسيسية انتخابا سليما وصحيحا يمثل جميع أطياف المجتمع؟.. ألم يترك لهما فرصة أخرى بعد إبطال التأسيسية الأولى بحكم المحكمة، ولكنه العند السياسى والاستقواء والرغبة فى السيطرة والاستحواذ والانحراف بكتابة الدستور على هواهم ومزاجهم الشخصى وهذه كانت المعركة الأساسية التى سعوا إلى الفوز بها، وكان البرلمان والرئاسة والحكومة هى الطرق الثلاثة المؤدية إلى هذا الهدف. إننى أتمنى ألا تخرج أحكام القضاء اليوم فيما يتعلق بالجمعية التأسيسية لتعيدنا إلى نقطة الصفر بعد أن قطعنا شوطا كبيرا فى مواد الدستور الجديد.. وفى المقابل على الرئيس أن ينصاع لأحكام القضاء فيما يتعلق بعدم دستورية مجلس الشعب.. وأيضا بتنفيذ حكم المحكمة إذا حكمت بعدم دستورية مجلس الشورى كذلك.. وأتمنى أيضا ألا تستمر المواجهات والصدامات بين مؤسسات الدولة لأن ذلك ليس فى مصلحة الوطن.. وألا يتدخل الرئيس ليصدر إعلانا دستوريا موازيا للإعلان الدستورى المكمل لأنه ينقل الصراع إلى مرحلة أخرى من الصدام لا داعى لها خاصة أن المدة الباقية على الاستفتاء على الدستور وسقوط الإعلان الدستورى الأول والمكمل لا تتعدى الثلاثة أشهر.. وبذا تكون السلطة المدنية قد استتبت تماما.. وتبدأ مسيرة الديمقراطية بصورة فعلية.