الخبر كان مفزعا لكن ما وراءه هو الأكثر خطرا وإفزاعا، أما الخبر فهو حبس عادل إمام ثلاثة شهور بتهمة ازدراء الأديان فى بعض أفلامه ومسرحياته ورغم أن الخبر يمكن أن يتحول للنقيض تماما فى مرحلة الاستئناف لنقرأ بدلا منه براءة عادل إمام مثلما حدث فى القضية الأخرى التى كان متهما فيها هو وشريف عرفة ووحيد حامد بازدراء الأديان وحصلوا على حكم بالبراءة، لكن يظل الأكثر إفزاعا هو ما وراء تلك الدعاوى القضائية وغيرها من محاولات إرهاب الفنانين والتفتيش فى ضمائرهم وتكفيرهم والمطالبة بحبسهم بل ربما يخرج علينا بعد ذلك من يعلن أن حبس الفنانين لا يكفى ليطالب بإعدامهم رجما! لكن لماذا عادل إمام تحديدا هو المطارد بتلك الدعاوى القضائية وهل يعرف من يطاردونه من هو عادل إمام وماذا قدم للناس فى هذا البلد حتى أنه تحول إلى جرعة دواء ضد الاكتئاب يصفها أطباء علم النفس لمرضاهم؟
أظنهم يعرفون من هو عادل إمام جيدا وإلا ما كانوا يطاردونه دون غيره، وربما على طريقة «اضرب الكبير يخاف الصغير» أراد هؤلاء أن يرفعوا فى وجه الفن المصرى كله كارت إرهاب ورسالة بأن من سيتجرأ ويرفع شعار الحرية سيكون مصيره مثل مصير هذا الفنان الكبير، والمفارقة أن مطاردة الفن ومحاولة تخويف الفنانين وتحجيم حرية إبداع تأتى بعد ثورة نادت بالحرية فى أول ما نادت به.
فهل هذه هى الحرية أن نطارد مبدعا ونفتش فى نواياه وضميره وأعماله لنستخرج منها مشاهد ونقتطعها من سياقها ثم نكفره بسببها ونطالب بحبسه؟ هل هذه هى الحرية أن نقيم محاكم تفتيش نكفر فيها الفنانين بحجة الدفاع عن الدين الذى أصبح كثيرون أوصياء عليه؟
∎«من هو عادل إمام»؟
أعود إلى السؤال الأهم فى رأيى: من هو عادل إمام الذى يطاردونه؟
عادل إمام هو صاحب أكثر من خمسين سنة مشوارا مع الفن وأكثر من مائة فيلم أسعد بها - ولا يزال -أجيالا مختلفة فى مصر والعالم العربى كله.. وهو صاحب أعلى الإيرادات فى السينما والمسرح تلك الإيرادات التى كانت ترجمة على شعبيته الضخمة وحب الناس له واستفتائهم على نجوميته.. عادل إمام هو الذى وصفته الصحافة الأجنبية بأنه ألباتشينو مصر.. وهو الذى اختارته الأممالمتحدة ليكون سفيرا لشئون اللاجئين بجوار نجوم لهم اسمهم وقيمتهم.. عادل كفنان اختلف حوله البعض وانتقده البعض وهذا أمر طبيعى فلا يوجد فنان فوق النقد، لكن عادل إمام المواطن المصرى الذى يحمل درجة فنان كان دائما صاحب مواقف وطنية لا يمكن لأحد أن يزايد عليها.. هو الذى تحدى الإرهاب وعرض نفسه وفرقته المسرحية للخطر عندما أصر على أن يسافر إلى أسيوط ليعرض مسرحيته «الواد سيد الشغال» هناك بعد أن قام متشددون هناك بمنع فرقة مسرحية من العمل.. عادل إمام هو الذى كان له دور فى مواجهة مذبحة الثأر الشهيرة فى سوهاج وحقن الدماء هناك.. عادل هو السفير المشرف للفن المصرى فى العالم العربى كله واستقباله الشعبى والرسمى فى كل دولة كان يسافر إليها كان دليلا على قيمة هذا الرجل.
عادل امام هو من أضحك الجمهور فى أفلامه ومسرحياته فى وقت كان الضحك فيه عملة صعبة ولهذا كان البعض يعتبره أحد أبرز أدوية مرض الاكتئاب.. وهو من سجل بمسلسله «دموع فى عيون وقحة» أحد أبرز البطولات الوطنية من خلال قصة رجل المخابرات جمعة الشوان، وهو من تصدى للفساد فى «اللعب مع الكبا»ر وللإرهاب فى «الإرهابى» ودافع عن حقوق البسطاء فى الإرهاب والكباب، وهو من رصد التغييرات المؤسفة فى مجتمعنا فى «عمارة يعقوبيان» وسخر من الحكام الديكتاتوريين فى «الزعيم».. وأفلام ومسرحيات عديدة سجل بها عادل أحلام وآلام المواطن المصرى البسيط.
بعد كل هذا ولكل هذا أيضا هناك من يطارده ويسعى إلى تكفيره والزج به خلف القضبان ليهدم هذا الرمز الفنى وهو بذلك لا يهدم عادل إمام كشخص وإنما يهدم وسطا فنيا بكامله ويثير فزعا وخوفا فى نفوس المبدعين ويبعث برسالة للعالم الخارجى يقول فيها إن مصر أصبحت تأكل مبدعيها لنعيش كابوسا من تقييد الحريات بعد ثورة قامت من أجل الحرية!
وأكاد أجزم بأن عادل إمام لا يخشى شهور السجن الثلاثة، لكن خشيته الحقيقية هى على الفن الذى أفنى فيه عمره وحياته وآمن به كرسالة أقوى من خطب الزعماء وكتابات الأدباء ومقالات المفكرين.
∎«رسائل»
لكن يخطئ من يظن أن القضية الآن هى عادل إمام وحده تماما مثلما لم تكن القضية التى أقيمت قبل سنوات ضد فيلم «المهاجر» تخص يوسف شاهين وحده أو قضية أغنية «من غير ليه»التى أقيمت ضد الراحل محمد عبدالوهاب بتهمة إساءة كلمات الأغنية للدين كان المقصود بها موسيقار الأجيال وحده أو قضية الفعل الفاضح التى أقيمت ضد معالى زايد بسبب مشهد فى فيلم «أبوالدهب» تستهدفها وحدها فمثل هذه القضايا رسائل تطل برأسها بين الحين والآخر لتثير الرعب فى نفوس الفنانين.
لكن الموقف الآن أخطر، فإذا كان الفنانون قد خرجوا من تلك القضايا وغيرها يحملون انتصارات لحرية الفن والإبداع، فالظروف الآن مختلفة تماما وسط ارتفاع أسهم بعض التيارات الدينية التى لا تعترف بقيمة الفن وحريته وتصدرها للمشهد بما ينذر بمزيد من تلك الدعاوى القضائية التى تطارد الفنانين وتقيم لهم محاكم تفتيش.
ويخطئ من يظن من السادة الفنانين الصامتين أن الأمر لن يمسهم فالدور قادم عليهم لا محالة إذا التزموا الصمت، ولذلك إذا لم يقف الفنانون معا فى مواجهة تلك الرسائل والهجمات الشرسة على فنهم وحريتهم فإنهم سيواجهون بعد ذلك ما لا يمكنهم الصمود أمامه بل المطلوب الآن أن يتحول الفنانون من مرحلة الدفاع إلى الهجوم القانونى على كل من يحاول تكفيرهم واتهامهم فى دينهم، ولعل المشهد الذى أعاد التوازن قليلا إلى الصورة هو الحكم فى قضية أخرى ببراءة عادل إمام ووحيد حامد وشريف عرفة ولينين الرمللى ومحمد فاضل من تهمة ازدراء الأديان، بل ظهور حالة من التضامن بين الفنانين والنقابات الفنية المختلفة وجهات الإبداع المتعددة ليس فقط وراء عادل إمام وإن كان هو المطارد الآن وإنما هى وقفة فى حقيقتها ضد كل من يحاول الاقتراب من حرية الفن والفنانين وإعادتهم وإعادتنا معهم للوراء سنوات طويلة وأثق أننا لن نعود أبدا.