تقول النكتة الشعبية المشهورة إن صاحب أحد المقاهى كان يعلق على جدران المقهى صور جمال عبدالناصر والسادات ومبارك وعندما سأله طفله الصغير عن أصحابها قال الصورة الأولى للزعيم جمال عبدالناصر الذى قام بثورة يوليو وأمم القناة وبنى السد العالى.. والصورة الثانية للرئيس السادات الذى قاد انتصار أكتوبر على إسرائيل ووقع اتفاقية السلام التى أعادت لنا سيناء.. أما الصورة الثالثة فصاحبها شريكى فى القهوة!! [السادات]
هذه النكتة التى انتشرت بين المصريين منذ حوالى15 عاما لخصت رؤيتهم لعصر مبارك الذى لم يكن قد مضى عليه وقتها إلا نصف المدة فقط عندما ذاعت هذه النكتة.. بعد أن حول البلد الكبير الذى حكمه بعد عبدالناصر والسادات إلى مجرد مقهى كبير كل ما يهمه فيه أن يدفع زبائنه الحساب له وأولاده فتحول المصرى فى بلده من مواطن إلى زبون!! بعد نهاية مؤتمر القمة العربى الذى عقده جمال عبدالناصر فى القاهرة فى سبتمبر 1970 لمناقشة كيفية إنهاء المذبحة التى يتعرض لها الفلسطينيون فى الأردن على يد الجيش الأردنى وتوديع عبدالناصر لآخر حاكم عربى غادر القاهرة وصلت معلومة ل «سامى شرف» سكرتير عبدالناصر للمعلومات مفادها أن خمس مجموعات فلسطينية قررت اغتيال الملك حسين بضرب طائرته فى الجو أثناء هبوطها فى مطار الملكة علياء بالأردن.. وعندما علم الرئيس عبدالناصر بالخبر وكان رد الفعل التلقائى الفورى من عبدالناصر هو الرفض وطلب من سامى شرف الاتصال بهذه الجهات التى ستقوم بالعملية وإبلاغهم بأن الرئيس ضد تنفيذ العملية لأن هذا ليس هو الأسلوب المفروض أن يتبع فى مثل هذه الأحوال انطلاقا من مبدأ كان عبدالناصر مؤمنا به وهو أن «الدم لا يجر إلا الدم» وأنه كان ضد فكرة الاغتيالات السياسية.. وبالفعل ألغت الجهات الفلسطينية علمية اغتيال الملك حسين بعد رفض مصر.
هذه الحادثة التى رواها سامى شرف فى كتاب «عبدالناصر كيف حكم مصر» للكاتب الراحل عبدالله إمام تكشف مدى القوة والمهابة التى كانت عليها البلد فى فترة حكم الرئيس عبدالناصر، فعندما تقول مصر لا لسياسة الاغتيالات لأن الدم لا يجر إلا الدم فيجب أن يلتزم الجميع حتى وإن كانت جهات ومجموعات لا تسمع إلا صوت نفسها .. «ياسر عرفات» نفسه كان لا يستطيع أن يمنع عملية اغتيال الملك حسين ولكن رئيس مصر منعها بكلمة واحدة «لا». وفى عام 1986 أثناء اجتماع الرئيس عبد الناصر مع مجلس الوزراء خاطب الرئيس وزيرى التموين والصناعة حول تقرير وصله يوكد ارتفاع أسعار المتطلبات الأساسية التى يتحملها رب الأسرة العادى قائلا للوزيرين «إننى لا أتصور أن ثمن البلوفر جنيهان يعنى لو أب عنده خمس أولاد سيحتاج لعشرة جنيهات لشراء بلوفرات فقط.. هيشترى الجزم بكام؟ والملابس بكام، والقمصان والبنطلونات بكام؟» وأنذر عبدالناصر الوزيرين فى هذه الجلسة بأنه سيرفع الحماية الجمركية عن الإنتاج المحلى إذا لم تنخفض أسعار التكلفة وقال «والله أستورد لهم مايحتاجون من الصين الشعبية: اتركوا مكاتبكم وانزلوا الشارع، زوروا محافظات، اعقدوا اجتماعات للوقوف على مطالب الناس حتى تحلوا مشاكلهم». وإذا ربطنا القصتين ببعضهما ندرك أن عبدالناصر لم يكن ليستطع أن يحقق لمصر منزلة كبيرة فى الخارج بدون أن يشعر المواطن المصرى بقيمة بلده فى الداخل وأن جميع أجهزة الدولة فى مقدمتها رئيسها يعمل لمصلحته فى أولا، فقد كان عبدالناصر يدرك أنه يحكم دولة كبيرة ويعمل على تبقى كبيرة وبالتالى شعر المواطن المصرى أنه ينتمى لدولة يعرف رئيسها قيمتها جيدا، لذلك عندما وجد عدد من المصريين فى الخارج أن السفارات المصرية فى الدول التى يعملون فيها لاتهتم بمشاكلهم أرسلوا إلى الرئيس جمال عبدالناصر يطلبون منه التدخل فطلب الرئيس من سامى شرف أن يرسل خطابا إلى محمود رياض وزير الخارجية فى هذا الوقت يبلغه فيه بشكاوى المصريين فى الخارج ضد الدبلوماسيين العاملين بالسفارات المصرية بأنهم لايهتمون بأداء واجبهم على الوجه الأكمل مع المواطنين، معتقدين أن وجودهم بالخارج إنما لحل بعض المشاكل السياسية فقط . بالإضافة إلى معاناة الطلاب الدارسين بالخارج من عدم دراية القناصل بالمنشورات والتعليمات الموجودة بالقنصليات والسفارات. وعلى الفور قرر وزير الخارجية إزالة كل أسباب شكاوى المصريين من الدبلوماسيين التابعين لهم بالخارج خوفا من غضب الرئيس.
الرئيس ورجل الدولة
أما فى عصر الرئيس السادات وبعد أن حقق أول انتصار لمصر والعرب على إسرائيل وسلك بعده طريق السلام وقاطعته معظم الدول العربية خاصة دول الخليج التى لم تجرؤ دولة واحدة فيها على إهانة العمالة المصرية لديها رغم قطعها العلاقات الدبلوماسية مع مصر بعد تحذير السادات لها بأن كرامة المصريين لديها خط أحمر لايمكن لمشايخ هذه الدويلات الاقتراب منه. وعندما حاول القذافى حاكم ليبيا فى ذاك الوقت بحماقته وجنونه إرسال رسله إلى مصر لتفجير السفارات والمصالح الحكومية لضرب الاستقرار فى مصر، دون رعاية لحقوق الجوار كما دأب على التحرش بمصر تحت دعاوى القومية العربية رغم أن أعماله كانت تتناقض على الدوام مع القومية والمصالح العربية، أمر السادات سنة 1977بالقيام بغارات جوية مركزة على القواعد العسكرية الليبية وأهمها قاعدة (معظم) وكاد القذف الجوى المصرى للقواعد الليبية يتحول إلى عملية عسكرية واسعة النطاق للقضاء على حكم القذافى لليبيا لولا طلب القذافى تدخل الاتحاد السوفيتى لإقناع السادات بالتوقف عن الغارات فى مقابل تعهد القذافى بعدم القيام بأى أعمال عدائية ضد مصر. وكان السادات يتعامل كرئيس مسئول ورجل دولة سواء حالة الحرب مع إسرائيل أو مفاوضات السلام معها وكذلك علاقته برؤساء الدول أخرى! لذلك استمر شعور المصريين بالزهو والفخر ببلدهم فى عهده. الباشا مذهول
انتظر المصريون عدة أعوام حتى يعرفوا مدى تقدير واحترام العالم لبلدهم ونظرته لهم فى ظل حكم رئيسهم الجديد حسنى مبارك.. وجاءت حادثة اختطاف عدد من الفلسطينيين للسفينة الإيطالية أكيلى لاورو والوصول بها إلى الشواطئ المصرية بعد قتل أحد ركابها الأمريكيين لتكشف مدى ضعف مبارك الذى أضعف مصر معه.. فبعد مفاوضات مع الخاطفين تم الاتفاق معهم على الإفراج عن الرهائن فى مقابل عدم التعرض لهم وقيام طائرة خاصة مصرية بنقلهم بأمان إلى تونس، بعد اتفاق مع الرئيس التونسى الحبيب بورقيبة، ولكن بعد قيام الطائرة التى تقل الخاطفين من القاهرة اعترضتها مجموعة من الطائرات الحربية الأمريكية وأجبرتها على التوجه الى إيطاليا والهبوط فى قاعدة عسكرية تابعة لحلف الناتو فى تركيا ليتم اقتحام الطائرة من قبل عدد من جنود المارينز الأمريكيين والقبض على الفلسطينيين، وقد اتضح وقتها أن الولاياتالمتحدة عرفت بموعد قيام الطائرة التى تقل الفلسطينيين من خلال تجسسسها على المكالمة التى أجراها مبارك من قصره الجمهورى بالرئيس التونسى ليخبره بقيام الطائرة من القاهرة فى طريقها إلى تونس، وعندما علم مبارك بالقرصنة الأمريكية على الطائرة المدنية المصرية التى كان يوجد بها مسئول مصرى مقرب من مبارك وعائلته وهو فاروق حسنى الذى أصبح وزيرا للثقافة فيما بعد..
اكتفى بعبارة «أنا مذهول مما قامت به أمريكا» مما أوقع الشعب المصرى فى ذهول أكبر أفاق منه سريعا على حقيقة أن كرامة بلده لم يكن يعد لها مكان عند أحد فى الخارج وإذا كانت قصة إهدار الكرامة المصرية فى زمن مبارك بدأت أمريكيا فإن جوهرها انتقل إلى الأشقاء فى دول الخليج التى يوجد فيها الجزء الأكبر من العمالة المصرية فى الخارج، حيث تعرضت هذه العمالة لعمليات إهانة وتنكيل تكاد تكون منظمة والتى وصلت إلى القتل المباشر كما حدث فى العراق بعد انتهاء حرب صدام حسين مع إيران، حيث عرفت مصر ما بين عامى 88 و98 ما يعرف بظاهرة النعوش الطائرة القادمة من بغداد وتحمل جثث كثير من المصريين العاملين فى العراق والذين توفوا فى حوادث غامضة، وكالعادة لم يفعل مبارك شيئا بل إنه عندما طلب منه المشير محمد عبدالحليم أبوغزالة أن تلفت مصر نظر صدام حسين إلى قلقها مما يحدث لمواطنيها العاملين فى العراق فاجأه مبارك بالقول: «بلاش نعمل دوشة على الفاضى».
وإذا كان هذا هو حال مبارك مع رئيس العراق السابق رغم حالة عدم الوفاق المعروفة بينهما، فبالطبع كان سكوته أكبر عما كان يتعرض له المصريون فى باقى دول الخليج التى يحكمها الملوك والأمراء أصدقاء وحبايب مبارك وعائلته، فلم يفعل شيئا مع أمير الكويت عندما طردت إمارته آلاف المصريين فى أوائل التسعينيات رغم موقف مصر المساند للكويت عندما احتلها صدام حسين فى 2 أغسطس 0991 ومشاركة أكثر من 53 ألف جندى مصرى أرسلهم مبارك إلى حفر الباطن فى السعودية مع قوات التحالف الدولى لإخراج قوات صدام من الكويت.
ومن الكويت إلى السعودية التى تعرضت العمالة المصرية لشتى صنوف التعذيب والهوان لدرجة أنهم استحدثوا للمصريين فى السعودية أحكاما وعقوبات ليست موجودة فى الشريعة الإسلامية التى يقول السعوديون إنهم يطبقونها. والتى وصلت إلى الحكم على أحد الأطباء المصريين بالجلد 1500 جلدة بدعوى أنه تسبب فى إدمان زوجة أحد أمراء الأسرة المالكة، وكالعادة مبارك لا يرى لا يسمع لا يتكلم!!
الغربة فى المقهى
وقد عرف المصريون أن من لا كرامة له فى بلده لا كرامة له خارجها.. لذلك لم تجد مواطنا مصريا واحدا فى أى بلد فى العالم يفتخر بأنه مصرى.. بل إن المصريين الذين اكتسبوا جنسيات دول أخرى مع الاحتفاظ بجنسيتهم المصرية كانوا لا يظهرون جواز سفرهم المصرى فى تنقلاتهم المختلفة عندما يأتون للقاهرة فى إجازات خاصة. لذلك لم يكن غريبا أن يشعر المصريون بالغربة فى بلدهم فهم مجرد زبائن فى مقهى مبارك الكبير.. فهل رأيتم مرة زبونا يشعر بالفخر والانتماء للقهوة التى يجلس عليها.. وهل رأيتم صاحب قهوة يهتم بمصالح الزبائن الذين يجلسون عليها.. كل ما عليه أن يدفعوا حساب المشاريب حتى إن قدمها لهم مغشوشة؟!