تستحضرنا الأحداث الدامية لكنيسة القدّيسين بمدينة الإسكندرية،لا لنكرّر أنفسنا ، ونلوك نفس التحليلات، ونستمع إلي الخبراء المكرّرين المألوفين الجاهزين أبدا ودوما وعندهم علم الساعة وتفسير كلّ واقعة وحل ّكلّ معضلة غير أن ّمصر ليست هذا الملل وسط دماء الضحايا التي غطّت جدران الكنيسة وأوصال الشهداء التي انتثرت في فنائها، وكما حصل في أعقاب أحداث الدير البحري، ظهر الرئيس حسني مبارك فورا ليتضامن مع الضحايا ويعزّي أسر الشهداء ويواسي الجرحي ويتعهّد بتعقّب الجناة ويؤكّد مسئوليته والتزامه بأمن المصريين واستقرارهم ، مهما كانت هموم مصر ومعضلاتها. ولأكثر من مرّة في الفترة الأخيرة طالما كرّر الرئيس إعلانه عن حرصه علي تأسيس الدولة المدنية الحديثة.ويدلّ ظهور الرئيس في خطاب متلفزٍ إلي المصريين علي أنّهم لايواجهون خللا طارئا،قامت به قوي محدودة جنّدت من أجله أحد عناصرها الانتحاريين المضلّلين أو المأجورين. مصر مستهدفة ، لأنّها شوكة في حلق المشروع السلفي متعدّد الاتّجاهات بمنطقة الشرق الأوسط وإفرازاته من العنف الدموي والتعصّب والتطرّف. مصر ومنذ بضع سنين تتلقّي التهديدات، وكان آخرها تهديدات القاعدة وإسلام العراق بضرب كنائس مصر، رغم أنّ وثائق جوليان أسانج مؤسّس موقع ويكيليكس سرّبت رفض مصر للحرب علي العراق وأفغانستان وقدّم رئيسها اقتراحه الشهير بمؤتمر عالمي لمكافحة الإرهاب بديلا عن الحرب. مصاب المصريين المسيحيين عظيم وجلل، خلال العشر سنوات الأخيرة، ومن غير المروءة أن نتركهم وحدهم ليحملوا علي كاهلهم وكاهل أجهزة الأمن عبء تأسيس دولة المواطنة، مقابل مشاركاتنا العاطفية. وعلي الأغلبية المسلمة والنخب المثقّفة أن تقوم بدورها بفضّ الارتباطات البشعة بين الحياد والتواطؤ، في مبادرة لمصر كلّها ضدّ محاولة انفصال تسعي لفرض نفسها علي الخطاب التاريخي القومي لمصر وممارسة التغيير في أسسه الحضارية والثقافية بجميع الوسائل الإرهابية والسرّية والعلنية.هذه المحاولة التي استمرّت في مرحلتها الأخيرة لأكثر من ربع قرن، تكفّر حاضرنا، وتبذر التعصّب، وتعادي السعي نحو الديمقراطية.لاتخفي أهدافها في تهجيرنا بقوّة السلاح نحو دولة الخلافة الدينية التي ستقوم بتطبيق الحدود وفرض الجزية علي المسيحيين،وما امتلأت به أرصفة الشوارع من تحريض علي احتقار عقولنا وتغييبها. كان علينا أن نحتجّ من أوّل يوم دبّت فيه الجماعات المنافقة،تكبّر في الليل وتجمع المسلمين في الظلام لصلاة العيد في الخلاء، لأنّنا في الواقع كنّا نتخلي عن تسامحنا، كانت مواجهات كتلك تحدث، ولقد شاركت مع جموع أطبّاء الاسكندرية في مواجهة هذا الإمعان في التحدّي من أسلمة الشوارع وفرشها بالحصر لأداء الصلاة ،إلي زي المرأة، إلي النقابات المهنية والتعليم والنداء عبر مكبّرات الصوت علي الصلاة وإقامة المدارس الإسلامية.. أعذرونا إخوتنا المسيحيين، كم آذيناكم، لكنّ الذين شاركوا منكم معنا لرفع صوت مصر احتجاجا علي وجود هذا التعصب الذي راح ضحيته فرج فودة وذبح نجيب محفوظ، يعرفون أنّ هذا يجري في مجتمع يعاني من السلبية. يحاول أن يجتاز الحواجز التقليدية أمام التعليم والوعي، ليخلق مرتكز انطلاق جديداً للتقدّم الاجتماعي والسياسي. لن نستمرّ هكذا، وحانت ساعة العمل ولكلّ منّا واجبه ودوره من الأمن إلي الجامع إلي المدرسة إلي شاشة التليفزيون ،والمظاهرات التي تعمّ شوارع مصر لا تشبه مثيلاتها،تكرّر معانقة الهلال للصليب، ومصافحة شيخ الأزهر للبابا شنودة. لقد قطعنا أشواطا أبعد! وسنؤكّد لبابا الفاتيكان أنّ أهل مصر هم المعنيون بحماية المسيحيين المصريين. والدماء التي تفجّرت في كنيسة القدّيسين تملؤنا عزيمة وذكاء ومضاء. ثمة إجماع بين عدد كبير من المفكرين والمثقفين المصريين علي أن هناك خطورة أكيدة تهدد قيمة المواطنة وتضربها في مقتل كما تنتقص منها، وتتمثل هذه الخطورة باختصار شديد في توظيف الدين في السياسة. وعموما فما نحن إلا جزء من تيار أكبر يشتدّ ضدّ الإرهاب التي تعجز قوات التحالف عن القضاء عليه في أفغانستان والعراق. وقد كشفت تقارير الويكليكس التي تم تسريبها بأنَّ الشيخ أسامة بن لادن المشرف علي حرب أفغانستان بالتمويل المالي والعسكري والإعداد والتخطيط، والمسئول المُباشر عن الانتحاريين "الاستشهاديين" الأجانب، علّق علي الحدود الباكستانية-الأفغانية رايات بيضاءَ مكتوبٌ عليها: "عاش الطالبان... عاش عمر وأسامة "... وبأسفلها كُتب بخط اليد يعتقَد بأنَّ الكاتبَ هو الشيخ بن لادن وقد أضاف: نحنُ نبحثُ عن قوات التحالف، و بإذن الله سوف نتخلص منهم "اقتلوهم حيث ثقفتموهم".