لا يبوح جابر عصفور حين يتحدث عن مغامرات الحب الأول والغواية الأولي بالأسماء الحقيقية حتي ولو كانت غير معروفة، لكن أسماء بعينها أخري تبدو واضحة المعالم والأوصاف والهيئة حين يتحدث عن الغرام بالقراءة وأول كتاب وأول بحث نقدي، ويفصل أكثر في الحديث والأوصاف الكاشفة حين يتحدث عن ذكريات الطفولة والنشأة في المحلة الكبري، نقرأ عن عم كامل بائع الكتب وشلة المحلة "صحبة قصر الثقافة" أو "الجماعة الأدبية" التي كانت تضم الراحل نصر حامد أبو زيد. لذلك فإن سيرته الذاتية التي نشرها مؤخرا ليست من النوع الكاشف الفضائحي أو الصريح المطلق، فليس هنا ثمة اعتراف ب"ماض مخجل"، كلها ذكريات سوية جميلة، بعض الوقفات عند أماكن وشخصيات ومواقف استقرت في منطقة ما في وعي كاتب أراد تقليب الذكريات الجميلة وحتي المواجع ائتناسا بها و"التعزي بأيام جميلة مضت" في وجه "حاضر مختل يزداد قبحا". يستعيد د. عصفور في كتاب حديث صدر عن الدار المصرية اللبنانية ، بعض أطياف الذاكرة التي قاومت النسيان، يمارس طقس الحنين إلي "زمن جميل مضي"، يترك العنان ل"ذاكرة تستدير علي نفسها"، يراجع صورا قلمية خطها قلمه عن أصدقاء وعشيرة وجيرة وزملاء دراسة، ومشاعر ابن تجاه أمه وأبيه، وخيالات مراهق متوهم بحب من "طرف واحد"، وفي كل هذا وقار وثقل ناقد ومفكر وأستاذ جامعي. يقلب أوراقا مازال يحتفظ بها وأخري ضاعت مع ما ضاع وسط "كراكيب" بيت العائلة. الدكتور والناقد ورئيس المركز القومي للترجمة كلها أحوال سيطرت علي روح الكتابة والتعليق علي الأحداث في هذا الكتاب، أخفق الدكتور جابر في نقل سيرته بعفوية ذلك الصبي الذي كانه والمراهق الذي كانه والشاب الذي كانه خصوصا في الفصول المتعلقة ببدايات التكوين، ابتعدت التصورات التي يضمنها الناقد الكبير عن الحياة والإنسان في هذا الكتاب عن السذاجة والبراءة التي من المفترض أنها تلائم صبيا في العشرين، لأن جابر الرجل الناضج الذي جاوز الستين أفسد علينا متعة الاكتشاف، وامتلأت سيرته بالأحكام الناضجة والتدخلات العاقلة وتقييم النفس كثيرا، لم يدع لنا شيئا نستنتجه، أجمل المذكرات التي تشركك في الحكم علي صاحبها، وأوقع تأثير تحدثه سيرة حياة فلان، أنه يحكيها لك كما لو كنت معه وقتها. ولأنها ليست سيرة كاشفة، ليس الغرض منها زلزلة التاريخ، ولا كشف المستور، كانت نوعًا من "استراحة المحارب" كما يقول د. جابر عصفور في مفتتح السيرة، يجد في الذكريات "بهجة الراحة والتأسي". يقول: "أعترف أن تذكري لمشاهد هذا الزمن الجميل الذي مضي لا يخلو من معني الإدانة للحاضر" ليبرر الحكمة النهائية من قرار كتابة سيرته وهي "السعي نحو زمن جميل آت". ومع ذلك لهذه السيرة أهميتها في رصد تاريخ مصر في أوقات حالكة، والأحداث الجسيمة المهمة التي مرت بها، سياسيا وثقافيا واجتماعيا، علي هذا النحو فالسيرة الذاتية التي يقدمها د. جابر عصفور مفيدة في أخذ الخاص والشخصي بمقام العام والعكس. نقرأ عن جابر أحمد السيد عصفور، ابن سبعة، وعن مدينته المفضلة المحلة الكبري "أشعر بالعرفان لأنني ولدت ونشأت في مدينة المحلة الكبري"، "يمكن أن أقيس سني عمري فيها بعدد المكتبات التي عرفتها والتي لا أزال أعرفها والتي أحلم بمعرفتها"، عن الوالد الأمي المتمرد مدمن التسكع من عائلة سكندرية مستورة، إلي الجد تاجر المصوغات المزواج، عن والدته التي كانت أرملة قبل زواجها من والده، "أبي الذي كان أقرب لي بحنوه وكرمه من أمي الصارمة العنيدة، لكنني أصبحت صلبا قويا مثلها"، وعن شقيق جابر التوأم الذي توفي بعد أقل من شهر من ولادته، عن فتنة القاهرة، وسكندريته التي ورثها من والده، عن حلم وأمنية أن يصبح مثل طه حسين، الذي قابله عصفور في منزله وهو طالب بكلية الآداب بصحبة أستاذته سهير القلماوي، وكان طه حسين وزيرا للمعارف سنة 1950 عندما كان جابر عصفور في سن السادسة. يتحدث عن أصداء ثورة 52 وهو في الثامنة من عمره، وعن حرب 1956 وهو في الثانية عشرة من عمره باعتبارها أنضجت وعيه السياسي ووضعته علي العتبة الأولي من الاهتمام بهموم مصر. "كنا من دراويش عبد الناصر"، هكذا يفتش جابر عصفور في ناصريته: "مثل الملايين نري عبد الناصر البطل الذي كانت تنتظره مصر، كنا مهووسين به، نعادي من يعادي ونحترم من يحترم، ونلوك شعارات التحرر الوطني والوحدة القومية والقومية العربية". عن الإخوان المسلمين نقرأ أن العداء لهم كان ضاربا في القدم، يقول إنه نفر منهم لما فيهم من جهامة وغياب البسمة وشيوع الروح القتالية، ويحكي عن تفاصيل زيارته الأولي لإحدي شعب الإخوان في منطقته بالمحلة، ثم يعرج في فصول أخري لأسرار وأسباب حب الرواية والتعلق بالشعر "تعلمت التأمل الشعري في الحياة والأحياء من صلاح عبد الصبور، لكني كنت أقاوم رغبتي في الكتابة خوفا من أن يلهيني الشعر عن المذاكرة، وإدراكه بأنه مهما كتب لن يكون الأول في كتابة الشعر". ولا تخفي روح السخرية والمرح والمفارقات في نبرة عصفور، إلي جانب المواقف الإنسانية.