لقد وضع فقهاء الأصول أربعة أركان لصحة انعقاد إجماع المجتهدين ليصبح إجماعهم تشريعا دينيا، ومن خلال هذه الأركان الأربعة سنكتشف مدي الخلل الفقهي والالتباس الذي وقع فيه فقهاء علم الأصول حين قرروا أن يجعلوا من الإجماع تشريعا دينيا يضاهي في مشروعيته القرآن الكريم، ومنه علي سبيل المثال: أن الفقهاء اعتبروا أن وقوع بعض الحوادث الجديدة والفريدة التي لم تكن ولم تحدث في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام حين نزول القرآن الكريم، اعتبروا أن مثل تلك الحوادث تحتاج إلي تشريع ديني، فاعتبروا أنه بانتهاء نزول القرآن الكريم بوفاة النبي عليه الصلاة والسلام فلابد من إيجاد مصدر للتشريع الديني يكون بديلا عن القرآن الكريم وعن الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك المصدر هو الإجماع. ولقد ورد في تعريف الإجماع كما جاء في كتب أصول الفقه أنه: اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في عصر علي حكم شرعي، ومن هذا يؤخذ أن أركانه الإجماع الذي لا ينعقد شرعا إلا بتحققها أربعة: الأول: أن يوجد في عصر وقوع الحادثة عدد من المجتهدين، لأن الاتفاق لا يتصور إلا في عدة آراء يوافق كل رأي منها سائرها، فلو خلا وقت من وجود عدد من المجتهدين، بأن لم يوجد فيه مجتهد أصلا أو وجد مجتهد واحد، لا ينعقد فيه شرعا إجماع، ومن هذا لا إجماع في عهد الرسول لأنه المجتهد وحده. الثاني: أن يتفق علي الحكم الشرعي في الواقعة جميع المجتهدين من المسلمين في وقت وقوعها، بصرف النظر عن بلدهم أو جنسهم أو طائفتهم، فلو اتفق علي الحكم الشرعي في الواقعة مجتهدو الحرمين فقط، أو مجتهدو العراق فقط، أو مجتهدو الحجاز، أو مجتهدو آل البيت، أو مجتهدو أهل السنة دون مجتهدي الشيعة لا ينعقد بهذا الاتفاق الخاص إجماع، لأن الإجماع لا ينعقد إلا بالاتفاق العام من جميع مجتهدي العالم الإسلامي في عهد الحادثة، ولا عبرة بغير المجتهدين. الثالث: أن يكون اتفاقهم بإبداء كل واحد منهم رأيه صريحاً في الواقعة سواء كان إبداء الواحد منهم رأيه قولا بأن أفتي في الواقعة بفتوي، أو فعلا إن قضي فيها بقضاء، وسواء أبدي كل واحد منهم رأياً علي انفراد وبعد جمع الآراء تبين اتفاقها، أم أبدوا آراءهم مجتمعين بأن جميع مجتهدي العالم الإسلامي في عصر حدوث الواقعة عرضت عليهم، وبعد تبادلهم وجهات النظر اتفقوا جميعا علي حكم واحد فيها. الرابع: أن يتحقق الاتفاق من جميع المجتهدين علي الحكم، فلو اتفق أكثرهم لا ينعقد باتفاق الأكثر إجماعٌ مَهما قل عدد المخالفين وكثر عدد المتفقين لأنه ما دام قد وجد اختلاف وجد احتمال الصواب في جانب والخطأ في جانب، فلا يكون اتفاق الأكثر حجة شرعية قطعية ملزمة. هذه هي الأركان الأربعة التي وضعها فقهاء الأصول ليكون الإجماع صحيحا من وجهة نظرهم، ويصبح ما تم الإجماع عليه حكما وتشريعا دينيا يضاهي في إلزامه للناس وقدسيته إلزام وقدسية القرآن الكريم، ولكن ما قد خفي علي فقهاء الأصول حين جعلوا من الإجماع مصدرا من مصادر التشريع الديني في الإسلام، أنهم بذلك قد اعتبروا من حيث لا يشعرون أن المصدر الأوحد للتشريع الديني الذي هو القرآن الكريم هو مصدر ناقص وغير كاف وغير واف ولا يمكنه استيعاب ما سيستجد من حوادث وأمور قد تحدث في المستقبل، وهذا اتهام صريح منهم للقرآن الكريم بالنقص، بل اتهام ربما غير مقصود منهم لمن أنزل القرآن بأنه لم ينزل فيه ما يمكنه استيعاب ما قد يستجد ويحدث من أمور وحوادث في المستقبل، مما استدعي البحث عن مصادر أخري للتشريع الديني لسد هذا النقص واستيعاب مستحدثات الأمور ومستجدات المستقبل.