أمامنا تنظيف شوارعنا مّما علق بها من معارك الدعاية والإعلان والإعلام، والمشاركة أو العزوف عن اللغط حول التزوير والشفافية والنزاهة، ومراقبة اللجوء للقضاء واستصدار أحكام جديدة، وانتظار التنبّؤات بمصير مجلس الشعب المنتخب وفي صدر كلّ منّا تفاؤله وتشاؤمه ! وتظلّ مشكلتنا الجوهرية أنّنا نصنع تاريخنا ومنه انتخابات 2010 ولكن في ظروف لم نخترها بأنفسنا. بعد شهور من قيام يوليو 1952، كنت أقف علي بعد أمتار قليلة من منصّة يقف عليها جمال عبد الناصر، يخطب في حشود من طلبة جامعة الإسكندرية، انقسموا إلي مظاهرتين ، تهتف إحداهما بالقرآن دستورا للأمّة إلي آخر قائمة شعارات " الإخوان " ، وتطالب الأخري بالدستور والأحزاب والحرّية. يومها استدلّ عبد الناصر علي الحرّية التي نتمتّع بها بأنّنا أمامه نهتف ونطالب !لم تمض سنة حتّي ألغي نظام عبد الناصر الدستور المصري (دستور 1923)، وحلّ الأحزاب ، وفرض الرقابة علي الصحف ليؤمّمها بعد ذلك، وفتح السجون والمعتقلات لكلّ من سيعارض نظام حكمه أو يري رأيا آخر في التطوّر المقبل لمصر بعد استقلالها وطرد المحتل الأجنبي . ثمانية عشر عاما سيقضيها عبد الناصر في الحكم يعدنا بديمقراطية سليمة،ينتقل بنا بين تجارب هيئة التحرير إلي الاتّحاد القومي إلي الاتّحاد الاشتراكي وتنظيمه السري الطليعي ، بديلا عن حرّيتنا في تكوين أحزابنا، وبالدساتير المؤقّتة بديلا عن الدستور الدائم، وبنظام الاستفتاء ولوريات البيعة، بديلا عن الاقتراع السرّي..ومسائل أخري تمزج بين التأييد الشعبي والطغيان وتخلط بين آراء وأهواء الشعب وبين مصالحه الحقيقية،من مثل أن يكون نصف المجالس النيابية من العمّال والفلاّحين، ليأتي ممثّلون أثبتوا زيفهم غالبا في تمثيل مصالح الطبقات الشعبية ! نلقي نظرة خاطفة علي تطوّر محدود قاصر، قام به السادات، عقب تولّيه الحكم،حيث بدأ في تقسيم " الاتحاد الاشتراكي " إلي ما سمّي " بالمنابر الثلاثة " اليمين والوسط واليسار" ما لبثت أن تطوّرت إلي عملية الأحزاب التي لن يسمح لها بالتكوين إلاّ بإذن لجنة حكومية تسمّي لجنة الأحزاب. المهمّ أنّه ظهرت من جديد علي الساحة السياسية كلمة المعارضة ! التي ستلحقها الأوصاف والألقاب منذ اللحظة الأولي . ويتعقّبها أصحاب الوصفات الثورية بأنّها ديكور يخفّف من ثقل النظر إلي نظام يعيش بصفة مستمرّة علي الأحكام العرفية. تستمرّ حتّي انتخابات 2010 ما يمكن أن نسمّيه إعادة إصلاح التربة، في ظروف جاءت متأخّرة.. وقد سكنت الجماهير وفقدت شهيتها للسياسة، ولم تعد حوّاسّها المنصرفة إلي مباريات كرة القدم والمسلسلات التليفزيونية بقادرة علي استساغة الواجب الانتخابي !والذي يراقب سلوك الجماهير وبرودتها نحو إصلاح أحوالها يصل إلي حالة من الصمت واللامبالاة، يكتشف أنّ جرثومة قد نفذت إلي دمائنا. لابدّ من وجود أسباب عميقة لهذا التحوّل السلبي علينا أن نشغل أنفسنا بها ضعف ما ننشغل بالبحث وراء أحوال الانتخابات ونتائجها.. يصبح علي الحزب الوطني الديمقراطي الذي يحكم باسم مصلحة الأغلبية، مسئولية أنّ ديمقراطيتنا أقلّ كثيرا ممّا يجب، في إطار ما تحوّلنا نحوه من قبول لنظام رأسمالي، يسمح بأن يشارك رجال الأعمال في الحكم،وأن يمتلكوا الصحف والقنوات الفضائية. إنّ أحدا لا يطمح بداهة في أن يتنازل أحد عن سلطانه، لكنّ من بيده حلّ مشاكل وأزمات ومتاعب الأغلبية وزيادة تدهور ظروفها . والرسالة التي تصمّ آذان الجميع، هي زيادة الفقر والجوع والحرمان والغلاء ومشاكل ومظالم الحياة الفردية والاجتماعية للأغلبية، وضعف الخدمات. بينما نشاهد بوضوح زيادة الغني والأسلاب والامتيازات للأقلية الارستقراطية الجديدة، التي لا تتحمّل عبئا ملائما في حل أزمات ومشاكل الإدارة الحكومية والميزانية والاقتصاد القومي. وبديهي أنّ زيادة أهوال وآلام القهر المعيشي، في ظلّ وسائل الحرّية القاصرة ، لاينتج معارضة حقيقية ، إنّما ينتج صراخا تنفيسيا. ننتظر ما يصير ، فإذا صار،تناولناه تصويرا وتحليلا وتعليقا وتبريرا. لا يكون لذلك صدي يذكر، لا من حيث تأثيره علي مجريات الأمور، أو معطيات القرار السياسي أو أوساط الرأي العام. ولاشكّ أنّ هذا يزعج ويهزّ الاستقرار، ويضع شحنات ودوافع الصدام في خدمة الانزلاق الأعمي نحو التضليلات الديماجوجية سياسية أو دينية ، بحثا عن حلول وهمية تزاحمت علينا في السنين القليلة الماضية.