«زهايمر».. فيلم له ثقل فني، ظهر من خلال تجربة إنسانية فريدة، لم يتطرق لها أحد في السينما المصرية، فلأول مرة علي شاشة السينما يتم تجسيد شخصية رجل مصاب بالزهايمر، إلا أن السيناريو لم يقدم لنا ذلك بصورة مباشرة، وإنما قدم هذا المرض من خلال بانوراما اجتماعية، ترصد أهم التغيرات النفسية والاقتصادية التي طرأت علي منظومة القيم والمبادئ في عصرنا الحالي، لنفاجأ بأن هناك فجوة كبيرة، تتسع بين البشر، وبخاصة فيما يتعلق بالعلاقات الإنسانية داخل الأسرة الواحدة. الفيلم بانوراما لضياع قيم المجتمع الأب يقع ضحية لأولاده الذين يتحايلون عليه، ويدبرون له مكيدة من أجل إقناعه بأنه مريض بداء النسيان، بهدف تجريده من أمواله، لكنهم لا يدركون أنهم يجردونه من كل شيء بدءًا من ذكرياته حتي أفكاره وانطباعاته، وقناعاته الشخصية، ويطرح الفيلم فكرته الأساسية وهي الصراع بين الحق والباطل، والحقيقة والوهم والخير المتمثل في الأب والشر المسيطر علي أولاده، وتتصاعد حدة الصراع مع اكتشافه لخيوط الخدعة التي نصبت بإحكام لتطوقه فيتقافز داخلنا سؤال غاية في الأسي والألم: من الذي أصيب بالزهايمر؟ الأب الذي يحافظ علي مبادئه؟ أم الأولاد الذين نسوا والدهم، وقرروا أن يقدموه قربانًا علي مذبح الطمع والأنانية؟ السيناريست نادر صلاح الدين نجح في سبك الحوار والمشاهد السينمائية بحرفية عالية، لأنه أجاد تضفير التراجيديا بالكوميديا ومزجها دون أن يُحدث خللاً في البنية المنطقية للفيلم والتسلسل الطبيعي للمشاهد، فجاءت تلقائية وإن كانت مغلفة بمظاهر مأساوية، لأنه لا يمكن لأحد أن يتحمل تجربة موته وتصفيته، بينما هو مازال علي قيد الحياة، ولولا مهارة المخرج عمرو عرفة في الخروج من المشاهد المأساوية بلمحة كوميدية خفيفة، والاعتماد علي قدرات عادل إمام الفنية كممثل، لما اكتسب الفيلم هذه المصداقية، لأنك كمشاهد تقع تحت تأثير هذا النجم الذي ينجح في كسب التعاطف الجماهيري معه منذ الوهلة الأولي، ليقدم دورًا سيحسب له في رصيد السينما المصرية. شخصية البطل يعتمد بناء فيلم «الزهايمر» بشكل أساسي علي شخصية البطل وعلاقته بالشخصيات الأخري، إذ يظل المركز الذي تشد إليه خيوط السيناريو وتنتهي إليه الأحداث إن لم تكن تبدأ به. نجح عادل إمام في رسم ملامح الشخصية سواء من ناحية الشكل الخارجي أو من خلال استيعاب الأبعاد النفسية لمرض الزهايمر، فتشعر طوال الوقت بمدي التوتر النفسي الذي يعانيه من جراء فشله في الإحاطة بما يدور حوله، كما أن نظراته الحائرة في المكان وتجاه الأشياء والصور المعلقة علي الجدران تنقل للمشاهد مدي الحيرة والقلق اللذين يشعر بهما، فهو ينظر إلي صورة زوجته مرارًا كأنه يطلب منها أن تساعده، فهو في حاجة إلي من يخلص له، ويسارع لفك محبس المياه ليغسل وجهه عسي أن تنفك عقدته. رغم تقديم عادل إمام لنموذج البطل الضعيف فإنه لم يفقد الأمل في إرادته، حتي لو كان مستهدفًا من أقرب الناس إليه، فهو صامد رغم ضياع الذاكرة، ويؤدي ذلك بتمكن واقتدار، وينتقل بتعبيراته من النقيض إلي النقيض.. من الحزن إلي الرضا ومن الضيق إلي الفرح ومن الابتسام إلي الغضب، ويتم ذلك بسهولة وانسيابية ومرونة تحسب له، لأنه وصل بأدائه التمثيلي في الفيلم إلي قمة النضج الفني لدرجة تلمح معها ظلال نجيب الريحاني في بعض المشاهد، فتمتزج دموع المأساة بطعم السخرية الكوميدية. وتتصاعد حدة المأساة في المشهد الذي يكتشف فيه أن صديقه «عمر» - الذي يجسد دوره سعيد صالح - مريض أيضًا بالزهايمر، وهو من لجأ إليه طالبًا مساعدته فيضحك من كل قلبه.. إلا أنها ضحكة تنتهي بالدموع، عندما يسير عادل إمام خارج المستشفي، ويترك صديق عمره يسير بمحاذاته في الداخل، ولكن بعد أن يفصل بينهما حاجز المرض، الذي يصدم البطل عندما يعرف أن «الزهايمر» وحش لا يتردد لحظة في افتراس صاحبه حتي يقضي عليه، فالفيلم يتابع رحلة عادل إمام النفسية في البحث عن وجوده لحظة.. بلحظة. أما عن الحوار الذي دار بين عادل إمام وصديقه سعيد صالح، عندما حاول كل منهما أن يتمسك بالبقية الباقية له من الذكريات، فكان كلام سعيد صالح عن غدر أولاده به ينعكس علي وجه عادل إمام، ليجد نفسه محاصرا بالهموم، فهو يلمس بنفسه ضياع صديقه أمام عينيه، وفي نفس الوقت يشعر بأن ذلك هو المصير الذي يمكن أن ينتهي إليه. سعيد صالح أدي المشهد باقتدار، لأنه يتخبط خارج الزمن، فلا يعرف إذا ما كانت العزلة التي يعيش فيها ناتجة عن حظر التجول، أم أنه قد ألقي به في المستشفي مثلما تلقي النفايات الحية؟ وركز عادل إمام علي تقديم المشهد بكل ما أوتي من خبرة وأداء تمثيلي ليصنع لنا علامة بارزة في ذاكرة السينما المصرية، إذ يلتقط ذروة الانفعال الإنساني بلا صخب أو ضجيج، وإنما بحضور وجداني كبير. ويبدع عادل إمام في مشهد لجوء البطل إلي الله وهو يدعوه أن يكشف عنه الضر، ففي هذا المشهد يواجه عادل إمام الكاميرا بمفرده ليجسد حجم الكارثة التي حلت به، ولا يقل مشهد مواجهته للمرض عن هذه المشاهد أيضا، حيث يتلقي في حديثه معها صدمات نفسية متتابعة، كأنه يتعرض لجلسات كهربائية، إن صناعة المشهد السينمائي في الفيلم اعتمدت بشكل أساسي علي السيناريو الجيد والقدرة التمثيلية للنجوم ومهارة المخرج في بلورة الأفكار وترجمتها في صورة بصرية مشوقة وجاذبة وصافية. الموسيقي التصويرية قدم الموسيقار عمر خيرت نموذجا رائعا للموسيقي التصويرية التي نجحت في ترجمة الأحداث إلي سيمفونية مرهفة الإحساس والمشاعر، فهو يتابع مواقف الشخصيات في توترها وانفعالاتها، ويعبر عن سعادتها أو حزنها، لدرجة أن الموسيقي شكلت جزءًا أساسيا من نسيج العمل الفني، فهي دائمًا تتقدم إلي ذروة الأحداث، بل أحيانا تكون مؤشرًا إلي توقع الحدث نفسه، فهي تمهد لمفاجأة أو تكشف لغزا، ويعتمد عمر خيرت علي الانفعالات النفسية لشخصية البطل بمهارة وتمكن ليقدم لنا فيضا من إبداعاته الفنية. الإخراج السينمائي نجح عادل إمام في تجسيد شخصيتين لا شخصية واحدة، الأولي شخصية الرجل المريض «بالزهايمر» والثانية شخصية الأب الممسك بخيوط اللعبة وتحريكها لتأديب أولاده، ما جعل الفيلم ينقسم تباعاً إلي جزءين مختلفين، إلا أن أجمل ما في العمل هو مهارة الكاتب وحرفية المونتاج في كسر التوقع الدائر في ذهن المشاهدين، وتحويل الانفعال الوجداني المتأثر بالدراما السوداء إلي ضحكات من القلب، وإن كان بعض المشاهد خضع للثبات النوعي، ولم تشهد حركة للممثلين أمام الكاميرا. لقد تخلي عمرو عرفة في «زهايمر» عن استغلال طاقة فتحي عبدالوهاب وأحمد رزق التمثيلية وظهرت رانيا يوسف بشخصية باهتة لم تصل إلي حدود التألق والنضج اللذين ظهرت بهما في مسلسل «أهل كايرو».. والسبب هو تركيز المخرج علي الشكل الخارجي لهذه الشخصيات مستبعداً الأبعاد النفسية، وما بها من صراع، ولو تعرض لكشف التناقضات والاضطرابات الداخلية التي تمر بها كل شخصية، لأسهم ذلك كله في رصيد العمل وجودته حتي شخصية الممرضة لم تنل الاهتمام الكافي ولم تقدمها نيللي كريم بتفاعل إنساني حميم، بل بدت ترسم علي وجهها انطباعاً واحداً يكاد لا يتغير، إلا في المشهد الذي تعترف فيه بتفاصيل الخديعة التي دبرها أولاده له. يحسب لعمرو عرفة لو لم يكن مخرجًا متمكناً من أدواته لما استطاع أن يسيطر علي كثافة هذه الأحداث المتلاطمة أحياناً والمتضاربة والمتناقضة في أحيان أخري، فهو حفر لها خطين متوازيين من التراجيديا والكوميديا. أما مدير التصوير محسن أحمد فقد أهمل إضاءة الوجوه في الفيلم فبدت قاتمة لدرجة أنك تجد صعوبة في التعرف علي الانفعالات الخاصة بها، كما لم يكن للإضاءة دور في الخلفية المكانية.. بما يعني أنها لعبت دوراً سلبياً ولم تخدم العمل كوحدة واحدة. يقدم فيلم «زهايمر» تجربة إنسانية تعبر عن ضياع الإنسان وامتهان كرامته وهو حي، وأهم ما في الفيلم أنه يفجر العديد من الأوجاع الإنسانية التي ترتفع بفكرته فوق الافكار الاستهلاكية.