استكمالا لحديثنا السابق حول موضوع «الإعلام والآخر» في إطار الأحداث الأخيرة التي يمر بها مجتمعنا اليوم، سواء أكانت سياسية أو دينية من خلال بعض الأحداث التي جرت مؤخرًا بين بعض الأشقاء داخل الوطن نستكمل حوارنا من خلال بعض الأطروحات التي رصدها الصديق العزيز الباحث سامح فوزي، والتي تعرض فيها لبعض من صور الإعلام، وقد تحدثنا في اللقاء الماضي حول ما يعرف ب«إعلام المساجلات»، و«أفلام الاستهداف»، وباعلام حولها، واليوم نستكمل الحديث حول بعض الأطروحات الأخري. إعلام المناكفات: وهو ما يعني شيوع نمط من الإعلام يعرف «باعلام المناكفات»، وأعني أن تتحول القضايا «المهمة» إلي مناكفات بين أشخاص تسودها الحدة والاتهامات، وتعلو فيها مشاعر الغضب والانتقام، حيث نري حالة سائدة هي الرغبة في «شخصنة»، القضايا، وإضفاء سخونة عليها، ثم تحويلها إلي مجال للعراك بين المختلفين، ومن أشهرها المناكفات في قضايا الشأن الديني، ليس فقط بين المختلفين في الدين، ولكن بين أبناء الدين الواحد، وهي ظاهرة ليست صحية علي الإطلاق، حيث إنها تقود إلي مزيد من التشرذم في المجتمع. في هذا السياق نجد مناكفات إعلامية مستمرة بين أصحاب الآراء المختلفة حول العلاقة بين الشيعة والسنة، ومناكفات بين قيادات بعض الفرق الإسلامية مثل أنصار السنة والمتصوفين، وعلي الجانب المسيحي نلحظ نوعية المناكفات ذاتها بين المنتمين إلي المذاهب المختلفة، خاصة بعد أن أولت وسائل الإعلام، خاصة الصحف، مساحات متسعة - أسبوعيا ويوميا - للشأن المسيحي، وبدلا من أن تتحول هذه المساحات إلي «مجال» لتعميق المعرفة، وتبادل الرأي، وترسيخ ثقافة قبول الآخر والتسامح، أضحت ساحة للمناكفات بين المختلفين في الرأي أو المذهب. وعادة ما تستخدم في المناكفات الإعلامية لغة شديدة القسوة، عنيفة انقسامية، تصل إلي حد إطلاق اتهامات تطول معتقد الشخص أو ولاءه الوطني، اللافت أنه في كل مرة تثار قضايا سجالية من هذا القبيل، نجد الوجوه ذاتها التي تجيد «المناكفات» في مقدمة المتحدثين لوسائل الاعلام، وكأنهم تحولوا إلي ضيوف ثابتين لاشاعة أجواء من الانقسام والتفكيك في الجسد الاجتماعي. هذا مجرد مثال علي «إعلام المناكفات». وقد يطرأ علي الذهن تساؤل أساسي هو لماذا يلجأ الإعلامي إلي مثل هذه النوعية من الخطابات؟ الإجابة عن السؤال لها مداخل كثيرة، ولكن يكفي أن نذكر بعضا من الأسباب التي تفسر هذا المنحني الإعلامي. 1- تنوع السوق الإعلامية، واتساعها، وارتفاع معدل التنافس بين الصحف والفضائيات ومواقع الانترنت، فقد تعددت المنابر الإعلامية الخاصة، واشتعل التنافس فيما بينها وبين المنابر الإعلامية الحكومية من جراء هذا التنافس تحولت الملفات الساخنة، والسجالية إلي محور أساسي في المتابعة الصحفية. 2- هناك أسباب تتعلق بوسائل الإعلام ذاتها، فالصحف أو الفضائيات التي تذهب وجهة اعلام المناكفات، وتستهدف فئات بعينها، إما أنها تبحث عن جمهور، أو رواج مادي، أو ترتبط بأجندة سياسية ضيقة، أو علي اتصال بجهات أو شبكات مصالح تود أن تدفع المجتمع في حلبة العراك والتفكيك. 3- تراجع الوعي لدي قطاع من الإعلاميين، خاصة الشباب، الذين لم يتكون لديهم بناء ثقافي ديمقراطي، نتيجة غياب التربية المدنية من برامج التعليم، والاعتماد علي مناهج التلقين، وعدم قيام المؤسسات السياسية والمهنية بدورها في الارتقاء بثقافة المنتمين إليها. وبصرف النظر عن الأسباب التي تدفع المنابر الإعلامية لتقديم خطابات سجالية غاضبة، فإنه من الضروري أن نرصد تأثير هذه الخطابات علي المجتمع، وفي تقديري أن استمرار هذا النمط من الخطابات الإعلامية يؤدي إلي: اهتزاز هيبة ورصيد مؤسسات المجتمعات في عيون المواطن العادي - ارتفاع معدلات التشويش والاضطراب في نظرة المواطن إلي القضايا العامة واشاعة مناخ من الإحباط واليأس، وافتقاد القدوة التي هي شرط أساسي للتغيير وإيجاد صعوبات أمام الإعلامي الذي يريد أن يعمل عملاً جادا بعيدا عن الخطابات الإعلامية سالفة الذكر، عملا بالمبدأ الاقتصادي الشهير «العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة» . في ضوء ما سبق، فإن الإفلات من هذه النوعية من الخطابات، وتلافي آثارها، يستدعي إعادة التعريف بعدد من المفاهيم الأساسية: 1- المسئولية الاجتماعية، وتعني مسئولية الإعلام في إثارة القضايا التي تهم المواطن في حياته اليومية، وتطوره الفكري، ومشاركته المجتمعية. 2- المسئولية المهنية، وتعني التحلي بالقيم المهنية في ممارسة العمل الإعلامي وهي الموضوعية والنزاهة والشفافية والرغبة الأكيدة في خدمة الصالح العام. 3- المسئولية الوطنية، وتعني أن يلعب الإعلامي دور «بناة الجسور»، في الحفاظ علي النسيج الاجتماعي، والاقتراب من القضايا الشائكة بما يوجبه الضمير المهني من احترام التنوع والاختلاف. وأخيرًا: لا يجب أن يفهم من هذا الحديث أن المطلوب هو تكميم أفواه الإعلاميين، أو وضع خطوط حمراء أمام مناقشة القضايا العامة، ولكن يعني الأمر أن يكون التناول الإعلامي لأي شأن عام في إطار رؤية تحافظ علي تماسك المجتمع، ولا تؤدي إلي تمزقه أو تبعثره، أو انخفاض معدلات الذوق العام