قالت المذيعة بكل حماس: (إن تركيا قالت من قبل: لا.. ويمكنها أن تقول أيضا الآن: لا).. ورد الضيف الجالس في واشنطن: نعم يمكنها أن تقول: لا.. ولكن السؤال هو: كم سيكون ثمن هذه ال(لا).. وعادت المذيعة تقول بحماس إضافي: سوف تقول: لا. والموضوع هو ما طلبه حلف الأطلنطي من تركيا بشأن نشر منظومات الدرع الصاروخية الخاصة بالحلف علي الأراضي التركية.. وكان النقاش دائراً في برنامج (ما وراء الخبر) علي قناة الجزيرة.. حيث مثلت المذيعة اتجاهاً يسمي التفكير بالتمني.. أي ذلك الذي يحلم.. ويتجاهل الواقع.. ويريد من القوي الإقليمية المحيطة أن تتصرف وفق أجندة الأحلام لا المصالح. تركيا في حرج بالغ.. مطلوب منها أن تنشر المنظومة (الدفاعية).. وسيكون عليها أن تقبل أن تدار هذه المنظومة من قبل الحلف.. وقائد عسكري في الغالب أمريكي.. نوع من التنازل عن السيادة لصالح الحلف الذي تعتبر تركيا عضواً عريقاً فيه.. منذ ما يزيد علي نصف قرن.. وسيكون علي أنقرة أن تستوعب كون هذه المنظومة موجهة كذلك إلي إيران.. التي تتطور العلاقات معها اقتصاديا لدرجة مذهلة. أردوغان، وفق ما قالت الأنباء، طلب ألا تتضمن وثيقة نشر المنظومة اسم إيران.. ويبدو أن طلبه التخفيفي والدعائي سوف يجاب.. وكونه طلب هذا يعني أنه ضمنياً وافق.. لكن عمليا هذه الدرع موجهة أصلا إلي احتمالات صواريخ يمكن أن تطلق من إيران.. في اتجاه أوروبا.. وحين تنتشر مقومات تلك الدرع فإنها سوف تنسف ضمنياً سياسة (العداء صفر) التي يقال إن تركيا تتبعها أو تسعي إليها.. بأن تنعدم معدلات الخصومة فيما بينها وبين جيرانها إلي المستوي صفر. يمكن لتركيا أن ترفض.. لكن هذا سيكون له تبعات.. ثمن لا.. ومؤاده أنها قد تجد نفسها بعيدة تماماً عن أي اقتراب من عضوية الاتحاد الأوروبي التي تحلم بها.. ثم إنها لا تصنع سلاحها بالكامل وتعتمد علي حلف الأطلنطي في هذا السياق.. والأهم أن هذا سوف يخرجها من المنظومة العولمية التي تتيح لها فرصة الانطلاق الاقتصادي عالمياً.. بحيث تتقدم في الترتيب بصورة رهيبة.. فالنمو والتطور الاقتصادي لايكون إلا بالرضوخ لقواعد عديدة. شخصياً أتبني داخلياً موقف المذيعة.. كل منا يتمني أن يقول الضعيف للقوي لا.. أن يرفض.. أن يتمرد لكن هذا ليس هو الواقع الذي يحدث.. العلاقات التركية مع العالم الغربي متشابكة.. وما يجري حاليا من قبل حكومة أردوغان هو الرغبة في صناعة صياغة رقيقة مقبولة شعبوياً لتلك العلاقة.. تحول تركيا من حليف بدرجة عميل لشركاء الأطلسي.. إلي حليف بدرجة نصير متخيل لحقوق المسلمين لدي المعسكر المسيحي.. أن يبدو الأمر كما لو أن القرار مستقل.. أن يبدو أنها مختلفة.. أن يبدو أنها تتفاوض.. ومن ثم تكتسب الأنصار في الدول العربية.. والإسلامية.. وتتفتح الأبواب للبضائع.. وتحصل حكومة أردوغان وما يمثل علي مزيد من الأصوات في الانتخابات. بخلاف هذه الصياغة لا يمكن لأنقرة الفكاك من معادلاتها الأوروبية والأطلسية ومفردات علاقاتها مع الولاياتالمتحدة.. هذه مصالحها. ولهذا فإن التحقيق في واقعة سفينة المعونات التي قتلت إسرائيل تسعة علي متنها أمام بحر غزة لم ينته إلي شيء.. والاستعراض التليفزيوني الذي قام به أردوغان في مواجهة بيريز في منتدي دافوس قبل عامين كان مجرد عرض لطيف ومسل.. واتفاق تخصيب اليورانيوم الإيراني في تركيا لم يتم.. كما أن مناورات الجيشين التركي والإسرائيلي مازالت مستمرة. من حق المذيعة أن تحلم.. وأن تجرجر المشاهدين إلي ميدان الأماني.. لكن ميادين المصالح لها مقاييس أخري وأثمان فادحة. الموقع الإليكترونى: www.abkamal.net البريد الاليكترونى: [email protected]