ليس مثل الدكتور طه حسين، المولود في الرابع عشر من نوفمبر سنة 1889، في التعبير عن عبقرية الشخصية المصرية عندما تواجه التحديات والعراقيل، فإذا بها تشهر سلاح الإدارة لتقاوم وتنتصر وتقهر الصعب والمستحيل. بيئة فقيرة، وعاهة مبكرة، ومناخ فكري رديء مسكون بالتخلف لكف قاهر الظلام يتجاوز ذلك كله، ويراود الإمساك بمشعل المعرفة، وينهض بعطائه غير المسبوق رمزا لمصر الجديدة التي تتطلع إلي اللحاق بركاب العصر. ينتقل طه من قريته في مغاغة إلي الأزهر، ويثور علي الجمود فيشحذ ارادته متحديا، ويشد الرحال إلي عاصمة النور لينهل في معارفها، ثم يعود مبشرا بالعلم والتنوير، وداعيا إلي التخلص من ثياب العصور الوسطي التي أورثتنا مزيدا من التخلف والانحطاط. في مرثيته البديعة لعميد الأدب العربي، كتب الشاعر الكبير نزار قباني: أيها الأزهري يا سارق النار، وياله من تعبير يبلور رحلة الرائد العظيم، فالطموح بلا حدود، والحلم بلا آفاق، والإصرار لا ضفاف له. عاش عمره ثائرًا يأبي الاستكانة لكل ما هو تقليدي آسن راكد، واستطاع مع أبناء جيله أن يحرك الثوابت ويزلزل الرضا بالجهل وقيمه المدمرة. ما أعظم الاحتياج في أيامنا هذه إلي مدرسة طه حسين والدروس التي تبثها: الحرية والعقلانية والمنهج العلمي، مواجهة الكهنوت ومن يدعون الوصاية علي العقول والأرواح معا. وفي عيد ميلاده، لابد من التأمل طويلا في التدهور الذي صرنا إليه، فها هي القيم الثقافية النبيلة تتدهور، وها هم خفافيش الظلام يحيلون النهار إلي ليل دامس. المعركة مستمرة، والاستسلام ليس واردًا، ولا أمل في المستقبل إلا باستعادة ما يرمز إليه طه حسين، قائد الكتيبة الباسلة التي دعت إلي وطن ترفرف فيه رايات العدل والحرية، ويحكمه فكر يعلي من قيم عصرية تنتصر لجلال الإنسان، ذلك الكائن العظيم الذي لا يعرف اليأس ولا يحل من التطلع إلي الأنقي والأجمل.