من حق الحزب الوطني، الساعي إلي ترسيخ وتعزيز أغلبيته البرلمانية، أن يباهي سياسيًا بعمله التنظيمي العلمي الذي يخوض به الانتخابات الآن، ولا شك هناك ملاحظات تسجل في اللحظات الحالية علي (تكتيك الترشيح المتعدد) الذي لجأ إليه الحزب، كاشفًا عنه بطريقة فاجأت الجميع قبل ساعة من إغلاق باب الترشيحات.. تلك الملاحظات إما أنها ناتجة من كوادر الحزب الذين رتبوا أوراقهم علي (ترشيح فردي) وصار عليهم التعامل مع متغير لم يكن في الحسبان.. أو ناجمة عن عمليات حرب نفسية متوقعة في الانتخابات من المنافسين.. ملاحظات موجودة.. لكنها لا تنفي أن الأسلوب المستخدم مثل نقلة نوعية وغير مسبوقة في العمل التنظيمي.. وتعبر عن دهاء حقيقي يتمتع به أمين التنظيم أحمد عز. يراهن هذا السياسي (الداهية) بالكثير، بينما يخوض تلك المعركة الفريدة التي قد تصبح حين تنتهي علامة فاصلة في تاريخ الانتخابات في البلد، وأيا ما كان حجم الدعم اللامتناهي الذي يجده من قيادة الحزب التي أقرت خطته وقبلت بها بعد مناقشات مستفيضة، فإنه لا شك قد وضع علي كاهله عبئًا مهولاً.. يقدر الكثيرون تكلفته السياسية. لقد تكررت الإشادات، من مختلف مستويات الحزب علي مدي الفترة الماضية لنوعية العمل التنظيمي الذي تميز بمواصفات لم تكن فيه، منذ بدأت عملية تطويره وتغيير أساليبه وأدواته متزامنًا مع خطة إصلاح متلاحقة المراحل تتم في الحزب منذ عام 2002، ومع قدوم الفكر الجديد، وقد سمعت في مناسبات مختلفة تقديرًا للمنهج العلمي والأساس النظري والإبداع السياسي الذي صار عليه الأمر.. ولا شك أن هذا التقدير في محله.. وربما لم يكشف التنظيم بعد عن كل طاقاته.. وها هو أمام لحظة حاسمة يواجه فيها تحديا مذهلاً.. قرر أن يتعامل معها بأسلوب غير تقليدي علي الإطلاق. أتاحت لي ظروف مختلفة، وعلاقة وطيدة أعتز بها مع أمين التنظيم أحمد عز، أن أطلع علي تفاصيل كثيرة بشأن هذا العمل التنظيمي، خصوصًا أن مصر عانت لسنوات طويلة من (سطوة الأقلية المنظمة) و(تهاون الأغلبية المبعثرة).. وقد كان خير شاهد علي تلك الظاهرة الانتخابات النقابية التي كانت تقطف نتائجها بأقل جهد جماعة محظورة قادرة فقط علي أن تأمر تابعيها بأن يتبعوا توجيهات التصويت (سمعًا وطاعة).. فيتمكنوا من اختطاف كيانات نقابية تعج جداولها بمئات ألوف الأعضاء لا يذهبون غالبًا للانتخابات من خلال بضعة آلاف من الأصوات المنظمة تتواجد أمام الصندوق منذ الصباح الباكر يوم الانتخابات. مدعومًا بثقة (الفكر الجديد)، وتفويض (الرغبة الحقيقية في الإصلاح)، ابتدع أحمد عز آليات معقدة للتعرف علي الكيان المهول الذي يندرج تحت عنوان الحزب الوطني، وبني أمانة التنظيم وبنيانها المتشعب في مختلف المحافظات، تحت ضغط رهيب، في وجود تنافسات سياسية مختلفة المشارب، ومعوقات لم تكن تريد للفكر الجديد أن يشق طريقه، بل تعطيله، والمؤكد أن الجميع يعرف ما قدر النيران التي تعرض لها لإثنائه عن مهمته.. نيران سياسية ومالية وصحفية وشخصية وصلت إلي قلب بيته. بدءًا من ترسية قاعدة أن (أعضاء التنظيم الحزبي) لا يحق لهم خوض الانتخابات، وصولاً إلي (التعدد المنضبط) في الترشيحات الانتخابية الحالية، تم قطع طريق طويل تأسس علي دراسات علمية دقيقة، وتحليلات اجتماعية وسياسية متعمقة، لم تقف عند حد دراسة الدوائر وشبكة العلاقات في مختلف أنحاء مصر، وإنما امتدت أيضًا إلي إعداد دراسات مقارنة عن التحديات التي تواجه الأحزاب الكبيرة والتاريخية في مختلف دول العالم التي يماثل نموذجها الحزب الوطني.. ومنها أحزاب في الهند واليابان والمكسيك وغيرها. لقد كون أمين التنظيم فريقًا من قرابة 60 خبيرًا، بخلاف عشرات من المعاونين والمندوبين والقائمين بالاتصال، الذين يتميز القياديون فيهم بخلفيات ودرجات علمية متنوعة، وبما في ذلك المحللون السياسيون ومتخصصو المعلومات والقانونيون، وهؤلاء هم الذين يحتشدون من أجل جهد عظيم يسفر عن دراسات ورؤي وتقارير تؤدي بعد نقاشات مختلفة وقرارات مؤسسية، لها مظلتها السياسية والشرعية، إلي حلول من هذا النوع المبتكر الذي فاجأ به الحزب منافسيه يوم الأحد الماضي. في (الغواصة)، وهو الوصف الذي يطلق تندرًا علي (غرفة عمليات الحزب الوطني)لأن موقعها في (بدروم) أعيد تأهيله في مقر الحزب التاريخي علي كورنيش النيل، شاهدت جدولاً معقدًا بخطة التحركات الزمنية لأمناء المحافظات منذ تلقيهم تعليمات قيادة الحزب بأسماء المرشحين، وصولاً إلي جهات تلقي الترشيحات.. حيث كانت في الجدول أيضًا ملاحظات تخص وسيلة حمل مستندات المرشحين وطريقة انتقال أمين الحزب وخط سيره، وبما في ذلك خط السير البديل أو المتقدم البديل بأوراق الترشيح لو تعرض أمين الحزب في محافظة ما لأي نوع من الظروف الطارئة التي قد تعوقه عن مهمته.. ومنها احتمال تعرضه للاختطاف. وليس ذلك نوعًا من التحسب الطريف، أو التخوف الزائد عن الحد، والدقة المرضية، ولكنه مجرد مظهر للعمل العلمي المنظم الذي يقوم به هذا الفريق، بدعم كامل من مؤسسية الحزب، وصولاً إلي تحقيق الهدف.. الذي وضعت له أيضًا نسب احتمالات الفشل قبل احتمالات النجاح.. والأخيرة أكبر بكثير لكنها لا تمنع الحذر من الأولي. في المؤتمرات السنوية للحزب، بعد انتخابات 2005، كنت أسمع بيانات أمين التنظيم التي تحلل أسباب النتائج السابقة، ومبرراتها وصولاً إلي مؤتمر 2009 الذي أعلن فيه علي ألسنة الأمين العام وأمين السياسات وأمين التنظيم أنه لن يحدث مجددًا أن يجد الحزب نفسه ضد نفسه كما جري في الانتخابات السابقة، والمؤكد أنه قد جرت تحليلات معقدة لفهم كنهه (التصويت العقابي) الذي ظهر في 2005، خصوصًا أن الجميع كان يعتقد أنه نابع من مبررات سياسية، أو غضب من توجهات اجتماعية بعينها، إلي أن تبين أن أحد أهم الأمور هو (التصويت العقابي) لأسباب تتعلق بغضب الكتل التصويتية من عدم اختيار ممثليها.. ومن ثم أصبحت ميزة الحزب الكبير عبئًا عليه.. إلي أن تحول هذا من خلال (التعدد المنضبط) طاقة إضافية له. سوف يواجه أمين التنظيم حملة شرسة، خلال الانتخابات وربما بعدها، والاحتمال الأقوي أنه سوف يتعرض لتلك الحملة إذا ما حصدت الأساليب التنظيمية انتصارًا متوقعًا، والمؤكد أن بعض الصحف سوف تستخدم أدوات في إحداث وقيعة، جرت محاولات مكشوفة لها بينه وبين قيادات الحزب.. وبما في ذلك بينه وبين الأمين العام.. وبينه وبين أمين السياسات.. وتلك أمور لا تفوت علي نضج.. ولا تمر علي فطنة سياسية.. لكن التحصن الأساسي في مواجهتها سوف يكون هو (المؤسسية) وأنها محاولات معروفة الأهداف.. وأن من يفتعلونها يقصدون أن يخسر الحزب الوطني طاقته المنظمة المضافة. www.abkamal.net [email protected]