يصر «جاكسون ديل» محرر الافتتاحيات في واشنطن بوست علي أن يتخذ موقفًا بعينه تجاه مصر، وهو يتبني اتجاهًا أيديولوجيا، لا يبدله حتي بعد أن نشرت صحيفته المؤثرة في العاصمة الأمريكية توضيحًا من مدير المكتب الإعلامي المصري كريم حجاج قبل نحو أسبوع، وحتي بعد أن قبلت نفس الجريدة نشر مقال لوزير المالية الدكتور بطرس غالي بعنوان «مصر.. رائدة التغيير في الشرق الأوسط». الافتتاحية الأخيرة لجاكسون ديل، والمنشورة صباح السبت، أي بعد مقال بطرس غالي بيوم واحد تثير ثلاثة أمور يجب التوقف عندها. الأول: مضمون ما كتب «ديل»، إذ بغض النظر عن أنه بني مقاله علي معلومات مغلوطة بالإجمال، خصوصًا تصويره حالة المناخ السياسي في مصر علي أنه يعاني من قمع مفرط، كما لو أنه يكتب عن إيران أو عن ميانمار، فإن المحرر الأمريكي يصل إلي مستوي بعيد جدًا من المطالبات.. من بينها أن ترسل واشنطن مبعوثا خاصًا إلي مصر بشأن الإصلاحات السياسية.. بل وأن يصدر في القاهرة بيان رئاسي حول الالتزامات بخصوص الانتخابات ونزاهتها!! أعطي «ديل» لنفسه حقًا مستوحي من خيال جامح، وعبر عن سذاجة مفرطة في تقييم العلاقات بين الدول، وفي تقدير قبول بلد مثل مصر هذا الهراء المرفوض تمامًا، الذي لا يمكن أن تفكر فيه الإدارة الأمريكية التي يمارس الضغوط عليها، تعبيرًا عن انتمائه للمحافظين الجدد، وحتي لو فكرت.. فمن قال ل«جنابه»: إن أحدًا يمكن أن يقبل هذا في مصر؟! إن عليه أن ينتبه إلي استقلالية مصر وطبيعتها ومكانتها والقيم التي يؤمن بها شعبها.. كي يحافظ علي ما تبقي له من مصداقية.. إن كان قد بقي منها شيء. الثاني: لماذا يصر «جاكسون ديل» علي هذا الانفراد في المواقف باعتباره الوحيد الذي يتسم بمواقف متعمدة وانحيازية بمؤداها يخوض تلك المعركة المتوهمة تجاه النظام الحاكم في مصر؟ فمع الإقرار بأن هناك عديدًا من التقارير السلبية التي تنشر عن مصر في الصحافة الأمريكية، إلا أن «ديل» يبقي وحيدًا.. من حيث كونه كاتب الرأي المنشغل دون غيره بالمسألة.. ومن حيث إنه الذي يمعن في أن يتبني مواقف حادة ليس لها آذان تسمع رأيا آخر أو عين تري أي شيء إيجابي.. حتي لو عرض عليه أن يسمع وأن يري. وفي التفسير نقول إنه من المعروف أن لدي «ديل» علاقات ممتدة علي المستوي الشخصي مع الدكتور سعد الدين إبراهيم وأيمن نور وزوجته السابقة، وقد تبدلت مواقف الدكتور سعد نوعًا في مصر.. وتطلق أيمن وجميلة.. لكن «ديل» لم يطلق مواقفه.. ربما بالطبع لأنه ك«صحفي» يريد أن يثبت أنه ليس مرتبطًا بتلك الإملاءات التي كان يسمعها من الثلاثي المنفرط من جانب واحد.. وربما أيضًا لأن الدكتور سعد يقول في القاهرة ما يقول غيره في واشنطن. الأهم هنا هو أن «ديل» الصحفي الوحيد، لكنه الرأس الظاهر من مجموعة مختلفة الأسماء متناثرة الوجود في مراكز الأبحاث الأمريكية، تلك التي تجد عليها أن تستخدم موضوع مصر في الضغط علي إدارة أوباما بشأن التدخل الممجوج في شئون الدول خصوصًا في الشرق الأوسط حول موضوعات الإصلاح الديمقراطي.. وبين هؤلاء مجموعة «كارنيجي» التي تعبر عنها جريدة المصري اليوم من خلال اتفاق مكتوب ومعلن. تشعر هذه المجموعات بالهزيمة، بعد أن فشلت خطط جورج بوش في تنفيذ ما أملت عليه بشأن تغيير طبيعة إدارات الدول في المنطقة، وقد كانت مصر هي الحلم الكبير والبعيد.. والمستحيل.. ومارس بوش استجابة لتلك الأجندة ضغوطًا متنوعة لم تفلح في أن تؤثر في سيادات دول كبيرة مثل مصر.. وذهب إلي خزائن التاريخ يجر أذيال الخيبة.. لكن هذه المجموعة من المحافظين الجدد لم يزل لديها أمل في أن تمارس ضغوطًا علي أوباما لعله يستجيب لها.. وهي لا تدرك أنه حتي لو استجاب لها وتخلي عن فهمه لطبيعة الدول وطبيعة دور بلاده وتفهمه مقومات الندية في العلاقات الاستراتيجية بين مصر والولايات المتحدة.. فإن أحدًا في أي بلد آخر لن يقبل التدخل في شئونه. الأمر الثالث: هو ماذا علينا أن نفعل؟ لقد كتبت بالأمس في عمود عنوانه: «مقال يوسف.. وما يليه» أنه لا بد أن نواصل التواصل.. وأن تعرض القاهرة مواقفها بشكل مستمر.. وأن تشرح دائمًا نفسها بأساليب مختلفة في الإعلام الأمريكي.. ولم أزل أصر علي نفس التوجه.. وإذا كان مقال «جاكسون ديل» الأخير ممقوتًا.. إلا أنه لا ينبغي أن يدعو للإحباط.. كما أنه يجب ألا يقابل بخمول المبتعدين.. بل إن علينا أن نواصل العمل بمنهج «مقال يوسف» وغيره.. ولا بد أن تبقي وجهة نظر مصر مطروحة.. حتي يبقي «ديل» وحيدًا.. أو يبدل مواقفه.. وإن كنت لا أظن ذلك.. وأعتقد أنه سوف يلاحق مصر بافتتاحية جديدة قبل أن تجري الانتخابات وأخري بعدها. إن للإعلام الخارجي أهمية قصوي لا بد أن تحظي بنفس الاهتمام الذي نعطيه للإعلام الداخلي. الموقع الإليكترونى: www.abkamal.net البريد الإليكترونى: [email protected]