تحصَّلتُ من صديقة فرنسية، فيما يُشبه الهدية، على صمولتين سميكتين صدئتين، عُرِضتا فى مزاد فنى بباريس سنة 2007. الصمولتان كان لهما شرف الدخول فى فم شارلى شابلن بفيلم العصور الحديثة منذ أكثر من ثمانين سنة. مشهد الغداء الشهير. شارلى فى استراحة الغداء بالمصنع لم يأكل بعد، أو بشكل أوضح لا يجد ما يأكله. المدير مع خبراء آلة طعام. يخضع شارلى للتجربة بما أنه لم يأكل غداءه بعد. تتعطَّل الآلة بعد البداية بقليل. الخبير أثناء إصلاح الآلة، يضع صمولتين سميكتين لامعتين فى طبق الطعام، الذراع المعدنى يدفع قطعة من الشيكولاه المموَّهة ببدرة السُكَّر فى فم شارلى شابلن، ثم يدفع الصمولتين اللامعتين الواحدة وراء الأخرى فى نفس الفم الصغير. عُرِضَ فى المزاد أيضاً كُرباك بإسورة حول المعصم، جَلَدَ به لى مارفن جسم المحامى جيمس ستيوارت فى فيلم الرجل الذى أطلق النار على ليبرتى فالانس للمخرج جون فورد. آلة قِفْل الجفن، أو lidlocks، أو تكنيك لودوفيكو، آلة إصلاح وتهذيب، فى فيلم البرتقالة الآلية للمخرج ستانلى كيوبريك. الآلة مُزوَّدة بمشابك تمنع جفون ألكس من الانطباق، أو حتى البرْبَشة، الممثل مالكوم ماكدويل بزرقة عينيه الفاقعة يُحدِّق فى مَشَاهِد عنف على شاشة عرض، والمشابك النحاسية تعض حواف جفونه. يُصاب الممثل مالكوم ماكدويل بخدوش فى القرنية وعمى مؤقت بعد تصوير المشهد. سنة 2009 تعلن محطة فرنسية على الستالايت عن عرض بعض أفلام شارلى شابلن الكبيرة، بعد أسبوع من تاريخ الإعلان. قمتُ بتعديل قَلَووز ذراع طبق الستالايت من أجل المهمة الجديدة للصمولتين الصدئتين المتحكمتين فى اتجاه وثبات الستالايت. وبعد أسبوع فى تمام العاشرة مساءً عرضتْ القناة الفرنسية فيلم العصور الحديثة، وعند مشهد الصمولتين المُرتقب قلتُ بصوتٍ مرتفع: هذه نقرة فى الزمن، أو واحدة تُحسب لى، رصاصة تخترق درعه الحصين. أنجزتُ اليوم تجميع 494 قطعة بازل. كنت قد بدأتُ بهوس قبل خمسة أيام، ودون دليل يرشدنى فى متاهة القِطَع المتناهية فى الصغر. هناك مفاجأة. الموديل المُقطَّعة إرباً، عارية. لفتة مرحة من مصمم اللعبة. صحراء التركيب، والدليل مفقود، وعطش الهداية، لا دليل سوى الظلال الشاحبة للألوان، ضلالاتها وانعكاساتها على قطعة مٌجاورة، أشكال القِطَع، أبعد ما يكون جسم الموديل عن التخمين، يغرق الجسم بعيداً، لن يكون مثيراً الآن. الشكل واللون فقط، قتل رحيم للوقت. نحن عَبَدة التسلية، نمشى فى رحابها مئات الأميال، بكلبية منقطة النظير، وخواء خال من التراجيديا، ليستْ هناك مأساة، أيضاً ليستْ هناك كوميديا، دقائق وساعات وأيام، دعها تمر. بعد عشر سنوات من تقطيع الموديل إرباً، يقوم ابنها صدفة بتحميل لعبة البازل من على الإنترنت. أمه مُقطَّعة إلى 867 قطعة، ومع العلم أن صورتها وحيدة من بين خمسين موديل، يقع عليها اختيار الابن، أوديب بشكل حديث، هكذا تُصنع الدراما الرديئة، خبز الدراماتورجية، صُدَف وأقدار ومصائر. لا أحتاج بذل جهد مثل هذا، أقف على قدمين. أنا مهجور مثل طفل ضل الطريق. إذا وقفت أمامى وتطلعت إليّ، فهل ستعرف شيئاً عن الآلامِ التى بداخلي، وأى شيء سأعرفه أنا عن الآلامِ التى بداخلك؟ وماذا سيحصل، لو رميت نفسى أمامك، وبكيت وأنا أحكى لك، فهل ستعرف شيئاً عنى أكثر مما تعرفه عن النار عندما يحكى لك أحدهم عنها، واصفاً حرارتها ورعبها؟ ويكفى هذا السبب وحده كى نعرف أن نهاب بعضنا البعض، أن نمعن التفكير كثيراً، وأن نقف إلى جانب بعضنا متضامنين، كما لو كنا نقف عند مدخل يؤدى إلى مكان مخيف. كل واحد يحمل فى داخله غرفة. هذه الحقيقة تستطيع التأكد منها عند إصاختك السمع. فعندما تسير بسرعة، وتصيخ السمع بدقة، فى الليلِ مثلاً، عندما يكون كل شيء حولك صامتاً، فإنك ستسمع مثلاً، صوت تحطم مرآة حائط ليست مثبَّتة بشكل جيد. إلى أى مدى من اللامبالاة يمكن أن تصل؟ إلى أى قناعة عميقة، بحيث تفقد، وإلى الأبد كل حس صحيح؟ كل علم هو منهج ما للبحث عند مقارنته بالمطلق، لذلك لا حاجة للخوف من ضرورة منهجية واضحة، إنها القشرة، لا شيء أكثر من ذلك، باستثناء أن تكون أكثر من نفسها. ضعف الذاكرة وحنينها للتفاصيل الصغير، صمولة فى فم شارلى شابلن، فستان رقصت به جودى جارلاند مع فريد إستير، صواميل يربطها العالِم بشرائط من القماش كما أمره الدليل فى فيلم ستالكر، بلطة بسلاح وحيد فى يد جاك نيكلسون يحطم بها باباً. التفاصيل الصغيرة شر وزوال وبداية نهاية، نهايتك كما تتصور فصولها، تتصور بحسب إدواردو ماليا أن مصير كل إنسان ليس شخصياً إلا بقدر ما يمكن أن يشبه ما هو فى ذاكرته. ويا لها من ذاكرة تحملها فى قفص رأسك. كيف تريد تأديةَ أكبر الواجبات، أن تتشمم قربها فقط، أن تحلم بوجودها، أن تتوسل حلمها على الأقل، إذا كنت لا تستطيع التعبير عن نفسك بهذه الدقة، وعندما تأتى لاتخاذ قرار، تقبض بيدك على نفسك كلها، مثلما تقبض على حجر لرميه، أو على سكين لتذبح بها أحداً ما. من ناحية أخرى: أنت تحاول مع جملة تحسبها تعبيراً عن نفسك، تحاول معها عشرات المرات، بيأس وأمل، تتراوح بين اليأس والأمل، تتراوح بين النقائض، تعبر فوقها بسرعات خيالية، تعبر بنَفَسٍ مخطوف. على سبيل المثال تقول: إنطلاقاً من شيء ما، إذا كان لك الانطلاق والعزيمة عليه، فيجب أن تنطلق من شيء تعرفه معرفة حقيقية تسد بها النقص المٌتوقَّع فيما تنطلق إليه، ولمَّا كانت انطلاقاتك عديدة، وكانت طاقاتك تنفذ بعد وقت قصير، فتبدو فى هيئة طفل فقد والديه فى سوق تجارى.