أنهيت مقالي السابق، " ما الذي لا نعرفه ؟ "، بأن العدد ( 173 - 117) من مجلة (ديوجين) التي تصدر عن اليونسكو، يمثل (استثناء) في تاريخ المجلة، لأنه قدم إجابات مبتكرة عن سؤالين يستجيبان لبعضهما البعض، وهما : "من نحن؟" و "ما الذي لا نعرفه ؟"، في منتصف التسعينيات من القرن العشرين. وسأجتهد في هذا المقال، والمقالات القادمة، في اثبات هذا الاستثناء، ليس من خلال عرض الأفكار التي طرحها المشاركون فقط، وإنما في إبراز الوشائج التي تربط بين هذه الأفكار الفلسفية الجديدة، التي حفل بها العدد قبل أكثر من خمسة عشر عاما، وما يحدث اليوم في العالم علي مستوي الثقافي والسياسي بالمعني الواسع للكلمة . قبل شهر تقريبا، تم الاحتفال بمرور عشرين عاما علي إعادة توحيد ألمانيا في الثالث من أكتوبر عام 1990، وكانت أوروبا طيلة الفترة الممتدّة من 1945-1989، رهينة الثنائية القطبية بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتي، حيث تم اقتسامها فيما بينهما كما تصارعا علي أراضيها، وعقب انهيار الاتحاد السوفييتي في العام 1989 بدأ التّفكير في وجه جديد للقارّة القديمة يتعلّق بأسلوب وجود أوروبا والأوروبيين في العالم . في هذا السياق ظهر خطاب جديد موضوعه "عودة أوروبا"، سري سريان النار في الهشيم في ألمانيا أولا، ثم فرنسا والنّمسا ومعظم بلدان أوروبا الشّرقية تباعا، لكن الجديد هو، أنّ معظم مفكري أوروبا، من الروس والبولونيين والتشيكيين قد فهموا خطاب "عودة أوروبا" علي أنّها "عودة إلي أوروبا". وفي مايو عام 1990 عقدت ندوة تاريخية تحت عنوان (الهوية الثقافية الأوروبية) حفلت بمشاركة نخبة من ألمع الفلاسفة والعلماء والأدباء، أبرزهم الفيلسوف الفرنسي " جاك دريدا " الذي ألقي محاضرة مهمة صدرت في كتاب تحت عنوان (الرأس الآخر)، كما أصدر " إدجار موران " كتابا عنونه ب (التفكير في أوروبا)، وكتب الفيلسوف الألماني "بيتر سلوتردايك" عن (عندما تستيقظ أوروبا)، وأيضا عالم النفس السلوفيني " تشيتيجاك " حول (ماذا تريده أوروبا)، وغيرهم . محور هذا الكتابات كان البحث عن صيغة جديدة لوجود الإنسان الأوروبي في العالم، ومن ثم طرح هذا السؤال الاستراتيجي : هل ينبغي أن يوجد الأوروبي في العالم كما كان من قبل، أي علي نحو (استعماري)، أم ينبغي أن يبحث عن صيغة جديدة مختلفة عن صورة أوروبا القديمة ؟ وهو تعبير صاغه المؤرّخ الفرنسي الشهير " جاك لوجوف " في مقاله المعنون "أوروبا القديمة وأوروبانا "، الذي لخص هذه المرحلة التاريخية والفكرية، بقوله : "ينبغي أن تَبتدع أوروبا اليوم شكلا آخر من الوحدة غير شكل الإمبراطورية". حركة الأمواج الفكرية في المياه الإقليمية لأوروبا أنتقلت سريعا إلي الضفة الأخري من المحيط الأطلنطي باتجاه الولاياتالمتحدة، فساهم الفيلسوف الأمريكي "ريتشارد رورتي" بمقال مهم في هذا العدد الاستثنائي من مجلة "ديوجين "، حمل هذا العنوان الكاشف: "من نحن ؟ .. أو من نكون؟ .. عالمية أخلاقية وخدع اقتصادية "، أكد فيه "رورتي" : علي أن السؤال "من نحن ؟" يختلف تماما عن السؤال الفلسفي التقليدي "ماذا نكون ؟". فالسؤال الأخير مرادف لسؤال الفيلسوف الألماني "إمانويل كانط" : ما الإنسان ؟" ، ويعني أساسا بالكيفية التي يختلف بها النوع البشري عن سائر المملكة الحيوانية، أو قل بالاختلافات بيننا وبين سائر الحيوانات الأخري، فهذا السؤال في النهاية هو سؤال علمي فلسفي . علي النقيض من ذلك، ينبهنا " رورتي " إلي أن السؤال " من نحن ؟ "، سؤالا سياسيا بالدرجة الأولي، لأن السائل هنا يريد أن يفصل بين الكائنات البشرية التي تكون أكثر مواءمة لهدف معين عن الكائنات البشرية الأخري . وأن يجمع المجموعة الأولي في مجتمع أخلاقي واع لذاته، بمعني: مجتمع توحد بينه الثقة المتبادلة، والرغبة في التضامن ومساعدة أقرانه، وغالبا ما تكون الإجابة عن السؤال ب" من ؟ "، هي محاولة لتشكيل أو إعادة تشكيل " هوية أخلاقية " في المقام الأول . وللحديث بقية ....