وصول الفيزياء إلي تخوم الميتافيزيقا، أعاد طرح الأسئلة الوجودية (الفلسفية) التي يعجز العلم عن الإحاطة بها: من أين جئنا؟ ومن نحن؟ وإلي أين نذهب؟ ... والأسئلة الابستمولوجية: ما الذي نعرفه؟ وكيف نعرف؟ ... وما طبيعة الفكر اليوم؟. هذه التساؤلات رسمت في الواقع، معالم الخريطة الفلسفية الجديدة للقرن الحادي والعشرين، التي يتمثل أحد رهاناتها، كما يقول فيلسوف العلم " بسراب نيكولسكو " : في ترميم جملة الشبكات التصورية، سواء الخاصة بمختلف المناهج العلمية، أو الخاصة بالجماليات والسياسة والأخلاق. وهكذا فإن (العبر مناهجية) - Transdisciplinarity ، وهي مفردة جديدة من نحت نيكولسكو، هي قلب ل "المشروع الديكارتي"، بتوحيد المعرفة المجزأة والمقسمة، وهي ضد "الثنائية" - Dualism بين الذات والموضوع، أو تلك المنظومة المعرفية التي ندور في فلكها منذ ما يزيد علي الثلاثة قرون وعرفت ب(الحداثة) - Modernity، إنها دعوة لبعث القدرة علي التفكير التكاملي. وهي تقودنا إلي التأسيس المنهجي للحوار بين ما بعد الحداثة - Postmodrnism وبين الحقول المعرفية المختلفة، إذ إن التنامي غير المسبوق للمعارف في عصرنا يمنح شرعية لمسألة تطويع العقول لهذه المعارف. بيد أن التناغم بين العقول وبين المعارف يفترض سلفًا أن تكون هذه المعارف معقولة، أو قابلة للفهم . في عام 1994 عقد المؤتمر العالمي الأول ل "العبر مناهجية"، وتبني المشاركون فيه : من فلاسفة وعلماء وأدباء وفنانين ميثاقًا جديدا، يعتبره العديد من الباحثين في العالم اليوم، بمثابة المكافئ لإعلان حقوق الإنسان والمواطن، في المجال الفكري والروحي كما جرت أولي لقاءات فلسفية لمنظمة اليونسكو في باريس حول موضوع : " ما الذي لا نعرفه ؟ "، ونشرت مجلة (ديوجين) في عددها رقم (169) بعض مقالات المشاركين في هذه اللقاءات، وفي عام 1996 طرحت اليونسكو سؤالا ثانيا علي المشاركين، بسيطا وصعبا في الوقت نفسه، هو : " من نحن ؟ " . السؤال الأول (ما الذي لا نعرفه ؟) لم يقصد به هذا المعني الساذج، وهو عدم المعرفة والجهل، وإنما انصب أساسا علي ما يحظر علي الإنسان في محيط المعرفة وهوامشها، أو قل (المستحيل التفكير فيه) . أما السؤال الثاني (من نحن ؟) فقد صيغ بدقة حتي لا يحدث خلط محتمل في الذهن، بين : " من نكون ؟ " وبين " ماذا نكون ؟ ". وعلي سبيل المثال : نحن كائنات بشرية في الكون، من لحم وعظم ودم، ومن مجموعة مختلطة من الخلايا العصبية والجزيئات، ومن الذكريات والمعتقدات والآمال، لكن السؤال هو : ما الذي يعنيه الزمن والتاريخ لهذه الكتلة الصغيرة من المادة والأسرار ؟ وما هي الصورة التي تمدنا بها عن الآخرين، وعن " الذات " ؟ .. ماذا تعني كلمة " الآخر " وكلمة " الذات " ؟ .. وما هو " الكوني " في كل منا ؟ ويبدو أنه في جوهر السؤال (من نحن ؟)، كما يقول " جين دورميسون "، رئيس تحرير مجلة (ديوجين) في افتتاحيته المعنونة : " إجابة غير نهائية علي أسئلة يصعب الإجابة عنها" العدد (173 - 117) .. " ثمة قلق وجودي " يكمن في المراهقة والأقليات، والفروق الاقتصادية والجنسية، وفي المدن " الفاضلة والطوائف "، وبهذا المعني مثل هذا العدد تحديدا (استثناء) في تاريخ مجلة ديوجين، وكأن سؤال (من نحن ؟) يستجيب لموضوع (ما الذي لا نعرفه ؟)، والأسئلة الوجودية تحوي في جوفها الأسئلة الأبستمولوجية بالضرورة .