ونتيجة لما تقدم يتقرر عجز العلم عن تحقيق " الموضوعية " و " الواقعية " : إنه لابد في البداية - وكما يقول أميل بوترو - من التفرقة بين الواقعة العلمية والواقعة الخام . ذلك أننا ( نقرر الوقائع التي نسميها علمية بواسطة نظرياتنا وتعاريفنا العلمية الموجودة من قبل ) . وكما صيغت النظريات بحيث تلائم الوقائع فإن الوقائع - في العملية العلمية - تصاغ بحيث تلائم النظريات . فاتفاق النظريات مع الوقائع هو من بعض الوجوه اتفاق هذه النظريات مع نفسها . إن العقل البشري لا يعرف ولا يدرك إلا بشرط حصوله من قبل على قوالب للمعرفة وللإدراك . فما هو الأصل الأول لهذه المعارف السابقة ؟ وما الذي تمثله ، وما قيمتها ؟ إن المشكلة تتجاوز نطاق الوقائع العلمية . وكل ما نعرفه هو أن معرفتنا وإدراكنا لا يمكن أن تكون إلا ترجمة بلغتنا للحقائق التي تقدم إلينا . والوقائع كالقوانين في هذا الصدد ، إذ هي - أي الوقائع - لا تعطى لنا إلا بسبب قوانين معينة ، إذ يرجعها الشعور إلى نماذج موجودة من قبل . ولن يتمكن العلم من التخلص من هذا الشرط العام للمعرفة . إن العلم لغة ، ولا يمكن أن يكون غير ذلك ، فكيف تصنع هذه اللغة ؟ وأي جزء من الحقيقة تكون هذه اللغة أهلا للتعبير عنه ؟ وبأي درجة من الأمانة ؟ هذه الأسئلة من الواضح أنها محيرة ، مادام العقل لا يمكنه أن يبحث فيها إلا بمعرفة الأفكار السابقة وباسمها . وما يستخلص من هذا هو أن العلم ليس أثرا تحدثه الأشياء في عقل منفصل ، بل مجموعة من العلاقات التي " يتخيلها " العقل ، لتأويل الأشياء ، ولكسب القدرة على استخدامها([1]) ثم يزيد أميل بوترو توضيحه للاواقعية القوانين والفروض ببيان أن هذه الفروض والقوانين العلمية تميل بوجه عام إلى أن تضع في العالَم خصائص الوحدة والبساطة والاتصال . وهذه الخصائص ليست من ثمرة الملاحظة ، فضلا عن أنه يعسر التوفيق بينها : لأن عالمنا مادامت كثرة أجزائه لانهاية لها فأن ترغب في أن يكون واحدا كأنك تتطلب من كل أجزائه أن يؤثر بعضها في بعض وأن يتأثر بعضها ببعض ، مما يجر إلى تعقيد لا خلاص منه ، هنا يبدو التضارب بين الوحدة والبساطة . والأمر كذلك في البحث عن الاتصال لأنه ابتعاد عن البساطة التي تضم بفعل الاتصال كثرة من المقولات المتمايزة وفى النهاية فان هذه الخصائص يفرضها العقل على الأشياء ، لأنه بمقتضى طبيعته لا يستطيع أن يتمثلها كما تعطى له في التجربة البحتة([2]). وهذا يتفق تماما مع ما ذهب إليه كارل بيرسن من القول ( بأن القانون العلمي ليس كشفا لعلاقات موجودة في طبيعة الأشياء ، وإنما هو اختراع لهذه العلاقات . )([3]) وكما يقول ليكونت دي نوي ( إن مقياس الملاحظة هو الذي يحدد الظواهر ، فعندما تغير مقياس الملاحظة نشاهد ظواهر أخري . ففي نطاق مقياس ملاحظاتنا تكون حافة الموس خطا مستقيما ، أما تحت المجهر فتبدو متقطعة ، أما في المقياس الكيميائي فإن الذي أمامنا جواهر من الفحم والحديد ، وفي مقياس مكونات الذرة يوجد أمامنا إلكترونات تسير بسرعة عدة آلاف من الأميال في كل ثانية . وجميع هذه الظواهر هي وجوه للظاهرة الأساسية وهى وجوه اختلفت باختلاف مقياس الملاحظة الذي نستعمله ... وإنه في الطبيعة لا توجد عدة مقاييس ، وإنما هناك ظاهرة واحدة متناسقة ، ضخمة على مستوى لا يدركه الإنسان . )([4]) ويقول الأستاذ جورج جاموف : ( لا نستطيع الجزم بأن نتائج القياس والمشاهدة تصف بالفعل ما كان يحدث لو أننا لم نستخدم وسائل القياس ، فالراصد ومعداته كلاهما يصبح جزءا متكاملا مع الظاهرة التي تدرس ، وفي جميع الحالات يوجد تأثير متبادل لا يمكن تجنبه على الإطلاق بين الراصد والظاهرة . )([5]) وهو في هذا يتفق تماما مع ما ذهب إليه عالم الذرة الفرنسي الشهير لويس دي برولي إذ يقول ( لم تعد فيزياء الكم تقودنا إلى وصف موضوعي للعالم الخارجي متفق مع المثل الأعلى للفيزياء الكلاسيكية . إنها لم تعد تمدنا بشيء سوى العلاقة بين حالة العالم الخارجي ومعرفة كل راصد .، وهى علاقة أصبحت لا تعتمد على العالم الخارجي وحده ، بل أيضا على المشاهدات والقياسات التي يجريها الراصدون . وهكذا يفقد العلم جزءا من طابعة الموضوعي .. )([6]) ثم يقدم لنا في هذا الصدد حقيقة بسيطة هي : ( إن علم الإنسان بشري ولا يمكنه أبدا أن يكون غير ذلك . )([7]) ثم يعبر عن ذلك كله تعبيرا صارخا بقوله ( لقد قيل عن الفن إنه " الإنسان مضافا إلى الطبيعة " ونفس التعريف ينسحب أيضا على العلم . )([8]) ويبلغ الصراخ أمام هذه الحقائق أقصاه في وليم جيمس عندما يقول : (ليست العلوم الطبيعية إلا فصلا واحدا من أدوار الشعوذة العظمي التي تلعبها قوانا الإدراكية مع نظام الوجود كما تمثله لنا الحواس .) [9]
وإذا كان العلم عاجزا عن تحقيق شرط " الموضوعية " التي هي من أهم مقوماته - أو " شعوذاته " على رأي وليم جيمس - فإنه أوضح في عجزه في مجال " التفسير " الملحق ببعض ادعاءاته : يقول الأستاذ إسماعيل مظهر إنه إذا كانت شمس القرن التاسع عشر لم تشرق إلا وقد برز العلم من ثنايا الفكر الإنساني بمستكشفات أدت إلى القول بأن مغاليق الوجود قد فتحت أمام العقل من طريق العلم . ، وأنه - أي العلم - سوف يصل إلى حل رموز الكون وأسرار الوجود في أقرب حين ..، وأخذ الناعون ينعون على طلاب الفلسفة ودارسي الدين أن طريقتهم التي يعكفون عليها في " تفسير" حقائق الحياة طريقة " غير علمية " وأن ليس في العالَم من له حق ادعاء الوصول إلى ذلك المدى القصي من المعرفة سوى المعرفة العلمية ... فإنه قد أصبح من الواضح الآن أن القرن التاسع عشر لم يشرف على الختام ؛ حتى ودعه العلماء بعدة مستكشفات خطيرة في الفيزياء والكيمياء والتاريخ الطبيعي جعلت أهل العلم يقررون أن للعلم حدا يقف عنده في تفسير الوجود .([10]) ماذا يقول العلم في تفسير عودة حجر إلى الأرض بعد أن يتم قذفه إلى أعلى ؟ يقول : لأن جاذبية الأرض تجذبه ثانية إلى أسفل . أعد هذا القول مرة أخرى فماذا تجد فيه ؟ إنه ليس أكثر من قولك " لأن كل الأشياء الأخرى تجري عائدة إلى الأرض تحت تأثير الظروف المحيطة بذلك الحجر . " ولكنك إذا تساءلت : لماذا تسقط الأشياء أصلا ؟ ولماذا يكون للجاذبية ضلع في نظام العالم ؟ وما هي الجاذبية ؟ لم تجد - كما يقول بيتي كروزيار - جوابا من العلم .([11])
وكما يقول أحد العلماء عن الكهرباء : إننا نعلم ما الذي تفعله الكهرباء ، ونعلم كيف تعمل ذلك ، ولكننا لا نعلم بالضبط : لماذا تعمل الكهرباء ما تعمله ؟ إننا نستعمل الكهرباء ولكننا لا نستطيع أن نفهمها تماما .
ويقول برتراندرسل : ( كل ما تتيحه لنا الفيزياء لا يعدو بعض المعادلات التي تقدم لنا بعض ما تتصف به تغيرات الحوادث من خواص . أما ما هي هذه التغيرات ، ومن وإلى أي شئ تتغير فان الفيزياء لا تجد جوابا ).([12])
ويقول كارل بيرسن : ( تقتصر مهمة القانون في معناه العلمي على وصف الإدراكات الحسية عن طريق اختزال ذهني ، ولما كان العلم يقتصر على الوصف ولا يفسر شيئا فمن الطبيعي ألا ننتظر منه تعليلا للترتيب الذي تحدث به هذه الإدراكات أو إيضاحا لعلة تكرار هذا الترتيب ) ([13]). إن العلم - والفلسفة أيضا - إذ يعجزان عن التفسير ، أو عن التفسير الصحيح ، فإنه لا بد من اللجوء إلى القول بالإرادة الإلهية .
لا يقتصر عجز العلم على عدم قدرته على التفسير ، ولكنه في مجال " الوصف " لا يمكنه - بحسب حدود منهجه الاستقرائى - الانتقال من مجال الملاحظة ، إلى مجال وضع " القواعد العامة "إلا بنوع من المجازفة " التي تبررها " المنفعة " لا غير . إن التعميم قول يتجاوز الملاحظة الفعلية إلى قاعدة أو قانون ، يغطي الحالات الملاحظة والحالات التي لم تلاحظ بعد . وهذا التجاوز يسميه العلماء " القفزة الاستقرائية " وكما يقولون فإن ( القفزة الاستقرائية هي "قفزة في الظلام " ) لأن التعميم قد لا يكون صحيحا على الرغم من أن الملاحظات التي بنى عليها صحيحة . نعم ، إنه لا مفر - عمليا - من التعميم ، ليمكن التطبيق ، والانتفاع .. ولكن السؤال هو : هل يتم ذلك بمنطق التفكير التجريبي نفسه ؟ يقول أوجست كونت ( إن التفكير التجريبي المطلق تفكير عقيم ، بل لا يمكن تصوره على وجه الدقة .. )([14]) وعلى هذا الأساس فإنه لا يمكننا أن نرى في الدعوة إلى التعميم انسجاما مع ذاتية المنهج الوضعي ، مهما كانت مبررات تلك الدعوة . والاعتذار بأن المعرفة الإنسانية لا يمكن أن تقتصر على المعرفة التجريبية البحتة ، لا يعني أن نعطي العلم وظيفة ليست خاصة به ، ولكنه يعني أن المعرفة الانسانية لا يمكن أن تقتصر على المعرفة " العلمية " . وهناك فارق منهجي بين أن نعمم باسم " العلم " ؛ أو أن نعمم باسم العقيدة ،أو الفلسفة ، أو الأخلاق ، أو الإيمان ، أو المنفعة ، مثلا .
ومن حصيلة ما تقدم – أو إضافة إليه - يظهر لنا عجز العلم في مجال المصادفة التي تتحداه ، ومن ثم التشكيك في إطلاق وصف العلم عليه : إنه إذا كان الملحدون الذين يدعون الاستناد الي العلم يصرحون - كما صرح برتراندرسل - بأنهم في تفسير أصل الوجود وتطوره يفضلون القول بالمصادفة ، على القول بوجود عناية إلهية مدبرة .. فإن العلم يتخلى عنهم ، وهو يكشف عما يسمى " قانون المصادفة " وأنه - كما يقول عنه رسل نفسه- ( يتصف بما تتصف به الرياضة من ضبط ويقين طالما لم يطبق ، وينشأ عدم اليقين عند التطبيق ) ([15]). وكما يقول الدكتور جون كيمنى ( إن القوانين الاحتمالية تدخل إلى العلم بسبب إخفاق جميع الوسائل الأخرى ، وعندما نضطر إلى الاعتراف بجهلنا الكامل )([16]). وكما يقول ليكونت دي نوي عن فرصة تحقيق " احتمال ما " ( إنه مهما كانت الفرصة ضئيلة فإنه لا يمكننا أن نثبت أنها سوف تتحقق حتى في نهاية بليون بليون قرن ، فقد تتحقق " ذرة " واحدة منذ البداية " ثم لا تعود على الإطلاق ، وتزداد استحالة حدوث ذلك مع كل ذرة جديدة ، وتزداد مع كل مجموعة متشابهة ، فإذا وصلنا إلى الخلية وأردنا التعبير رياضيا عن ظهورها تصبح الأرقام السابقة غير ذات قيمة ... ) ثم يقول ( إننا نصل إلى نتيجة هامة وهى أنه من المستحيل تماما تفسير جميع الحوادث التي تتعلق بالحياة وبتطورها بواسطة العلم . ) ويقول ( إنه لا يمكن تفسيرها إلا بكونها معجزة أو بتدخل قوة تفوق " العلم " . )([17]) وينتهى إلى أنه لا توجد حقيقة واحدة أو نظرية واحدة في أيامنا هذه تقدم تفسيرا مقبولا لتطور الطبيعة ومولد الحياة ، ويقرر أننا بدراستنا لمسألة أصل الحياة مضطرون إلى أن نقبل فكرة تدخل قوة سامية ( يدعوها العلماء أيضا " الله " وهى عكس الصدفة . )([18])
هذا وإنه لمن العجب أن نجد الماديين الذين يدعون الاستناد إلى العلم - وهم يبدءون السير في بحثهم منطلقين من أن القول بالإرادة الإلهية إنما هو محض عجز من الإنسان عن معرفة الأسباب ، وأن معرفة الأسباب تلغي القول بالإرادة الإلهية - نجدهم في نهاية الشوط يعلنون العجز عن معرفة " السبب " ، فماذا يفعلون ؟ هل يؤوبون إلى الإيماًن بالله ، كلا ، ولكنهم يفضلون القول بالمصادفة على ما بها من تغطية مفضوحة على الجهل . والله أعلم يتبع
------------------------------------------------------------------------ ([1]) أنظر العلم والدين ص 195 - 196 . ([2]) العلم والدين ص 223 . ([3]) مجلة تراث الانسانية العدد 12 المجلد 3 ص 922 . ([4]) مصير البشرية ص 20 . ([5]) قصة الفيزياء ص 344 . ([6]) الفيزياء والمكروفيزياء ص 146 . ([7]) الفيزياء والميكرووفيزياء ص 127 . ([8]) السابق ص 79 . ([9] )العقل والدين ص97 0 ([10]) ملقى السبيل ص 110 - 111 . ([11]) أنظر ملقى السبيل ص 84 - 85 . ([12]) فلسفتى ص 11 . ([13]) تراث الانسانية السابق . ([14]) أنظر فلسفة أوجست كونت ص 49 . ([15]) فلسفتى كيف تطورت ص 235 - 236 . ([16]) الفليسوف والعلم ص 118 . ([17]) مصير البشرية ص 33 - 34 . ([18]) مصير البشرية ص 110 .