بداية فإنه لا مفر من أن نفترض أن حظا من الخطأ كامن في أية نظرية أو قانون علمي ، لم يكشف عنه بعد . وكما يقول لويس دي برولي ([1]) ( لا نستطيع أن ننسى أنه يوجد دائما في المشاهدة والتجربة أسباب للخطأ يستحيل استبعادها كلية ) وأنه ينبغى على كل فيزيائي تقدير أهميتها من ناحية والتقليل منها بقدر الإمكان من ناحية أخرى . وكما يقول هرمان راندال : ( من الواضح تمام الوضوح أن النظريات والمفاهيم العلمية تتغير مع الزمن ، وأن من يذهب اليوم إلى أن أيا من الأفكار الحديثة يعبر عن الأشياء " كما هي " .. هو إنسان جريء. ) . ([2]) وكما يقول : ( إن العلماء هم أول من يسلم بأن مجموع معرفتهم طفيف ، إذا قورن بما يجب عليهم تحريه بعد ، وأن من الواضح أن فرضياتهم على حد كبير من الفجاجة ، وعدم الملاءمة في كثير من المواضيع الخطيرة . ) ويقول هانز ريشنباخ : ( من غرائب الأمور المشاهدة بالفعل أن أولئك الذين يرقبون البحث العلمي من الخارج ويعجبون به ، يكون لديهم في كثير من الأحيان ثقة في نتائج هذا البحث العلمي ، تفوق ثقة أولئك الذين يسهمون في تقديمه .!! )([3])
ثم يقول جيمس كونانت : ( إني أستطيع أن أكتب مجلدا كبيرا عن الأخطاء التي وقعت في تجارب علم الطبيعة والكيمياء ، وعلم الحيوان ، من تلك التي وجدت سبيلها إلى النشر في المائة عام الماضية ، وأستطيع أن أكتب كذلك مجلدا آخر كبيرا كهذا ، أسجل فيه ما تجمع في المائة عام الماضية من آراء لم تثمر أبدا ، ومن أحكام مطلقة ، ونظريات ناقض بعضها بعضا . )([4]) ومن عجب أننا نجد - بالرغم من هذا - اعتقادا عند دراويش العلم بأن كلمة العلم لا ترد. وهو اعتقاد لا يفترق في قطعيته وعموميته عما يستقر في خلد البعض عن عصمة البابا . وهو اعتقاد يرجع في بعض وجوهه إلى فكرة قديمة سادت عن منطق أرسطو - منذ ظهوره - بأنه ( تعصم مراعاته الذهن عن الخطأ ) ربما لأن المنهج العلمي كان هو الوارث للكرسي البابوي في تاريخ الحضارة الأوربية ، ، وهو الوارث للمنطق القديم ، وهو الوارث - في منطق الإلحاد - للدين . يقول هانز ريشنباخ - لا مدافعا عن الدين ولكن حرصا منه على أن يظل مكانه فارغا -: ( في حالات كثيرة حل الإيمان بالعلم محل الإيمان بالله . )([5])
في هذا السياق نلمس نماذج من أخطاء العلم: (1) ففي ممارسة التعميم هناك نوعان من التعميم في العلم : التعميم الإحصائي كالإحصائيات التي يقوم بها معهد جالوب الشهير " . والتعميم المطرد كتأكيد صفة البياض في " كل الأوز العراقي !! ويعرف العلماء أن الأخطاء في هذين النوعين من هذه التعميمات يصعب كشفها - بالرغم من وجودها - لما في أسلوب الإحصاء من المراوغة . لأنك مهما دحضت النسبة الإحصائية بفرد استثنائي ، فانه لا يمكن الاستماع إليك ، ( لأن الفرد الاستثنائي لا يدحض المتوسط . ) أو لأن الفرد الذي يبدو استثنائيا ليس مما ينطبق عليه التعريف وكما يقول ليونيل روبي ( إن الأرقام لا تكذب ولكن الكاذبين يرقمون ) أو كقول بعضهم على سبيل المبالغة : ( هناك ثلاثة أنواع من الكذب : الكذب العادي ، والكذب الفاحش ، والإحصاءات . ) ويقول ليونيل روبي عن الإحصائيات التي يقوم بها معهد جالوب الشهير : ( يتمتع معهد جالوب بسمعة طيبة ، وطريقته في إجراء الإحصائيات الاستفتائية عملية علمية ، ولا يسع المرء إلا أن يحترم ما يصدر عنه من نتائج ، ولكن لا يمكن لأي معهد من معاهد إجراء الاستفتاءات - مهما تبلغ إجراءاته من الدقة العلمية والعملية - أن يتلافى إمكان الخطأ ،أو يضمن الصحة والدقة إلا مقترنة بنسبة معينة من الخطأ . )([6])
(2): وإذا كانت النظرية العلمية - كما يقول لويس دي برولي - قد أثمرت اكتشافات رائعة : فإنها استطاعت في بعض الأوقات أن تؤخر خطوات التقدم جراء التشبث بالأخطاء كما هو ثابت في بعض الزوايا في تاريخ العلم!! وأوضح مثال على ذلك نظرية " الفلوجستون" تلك التي قبلها العلماء منذ منتصف القرن السابع عشر لتفسير احتراق المادة . تقول النظرية إن المادة إذا احترقت خرج منها فلوجستونها بقوة وتشكل في الشعلة ، وأصر العلماء على وجود هذا الفلوجستون في المادة بالرغم من أنهم وجدوا أن وزن المادة يزيد بعد الاحتراق ولا ينقص بخروج الفلوجستون ، وفسروا ذلك تفسيرا عجيبا : هو أن للفلوجستون وزنا سالبا ، وإذن فهو عندما يخرج من المادة يزيد المتخلف منه وزنا . يقول الدكتور جيمس كونانت ( فاعجب لشيء إذا أضيف إلى آخر نقص وزنه ، وإذا خرج منه زاد.) ويفسر بريستلي - الكيميائي العظيم 1733 - 1804- الذي حضر غاز الأكسجين معمليا - هذا التناقض ، تفسيرا أكثر عجبا إذ قال ( إن النظرية الفلوجستونية لا تخلو من مصاعب ، ومن أكبر مصاعبها أنا لا نستطيع أن نزن الفلوجستون ، كما أنه ليس منا من يستطيع أن يدعى أنه وجد للضوء أو للحرارة وزنا. ) واستمر هذا الخطأ مقيما في أروقة العلماء مدة قرنين ، يقول برنارد جافى ( إن بِشَر - مخترع النظرية - أعطى الفلوجستون للعالم ، ولفه في ثوب صفيق ، أنفق الناس قرنين في تمزيقه ، وعندما تم إعلان خطأ النظرية من "لافوازييه" الذي اكتشف سبب الاحتراق بانضمام الأكسجين ؛ اقتضى الأمر إقامة جنازة لتوديعها ؛ ضمن احتفال مهيب حضره كبار العلماء ليشهدوا احتراق كتب " بشر" وأتباعه على مذبح الكنيسة .... ولكن بعد عمر طال قرنين من الزمان .
يقول جيمس كونانت ( إن العلماء يصرفون أكبر همهم إلى الحقائق المختلفة يحاولون تفسيرها عن طريق ما يسمى المشروع التصوري ، أو النظرية العلمية ، والمشروع التصوري إن عجز عن أداء واجبه فهو لا يطرح ليترك مكانه فارغا لا يملؤه شئ ولو ظهر بطلانه )([7])
ولنا نحن هنا أن نتساءل : إلى أي حد يكون علينا أن نتقبل النظريات العلمية جملة وتفصيلا - وحالها ذاك - مهما بدت مخالفة لبعض الحقائق التي نؤمن بها بأشد من إيمان العلم بنظرياته أو قوانينه ؟ ألا يجوز أن تكون بعض هذه النظريات قائمة لفائدتها المؤقتة ،( بينما أن إيماننا يقوم لفائدته الأبدية ) وأنها تنتظر الوقت الذي تنهار فيه لتحل محلها نظرية أحدث تؤدي فائدة أشمل ، وتخلو - في الوقت نفسه - من المناقضة لبعض ما نؤمن به ؟! ومن الجهة المقابلة نقول : إلى أي مدى يحق للعلماء أن يرفضوا نظريات من غير وادي العلم الحديث ؛ لمجرد أنها تحتوي على مالا يتفق مع نظريات العلم الحديث ، وبالرغم مما تؤديه من نفع شامل ، وما تصنعه من تنسيق لحقائق أعم ؟ بينما هم في مجال العلم يقبلون نظريات علمية ، ويصرون عليها ، ويواصلون السير في إثرها ،مهما يكن فيها من خطأ أو نقص ، لمجرد أنها تملأ الفراغ ؟!
(3) أخطاء التزييف الحسي " الجبري " : يعتمد العلم الحديث على منهجه التجريبي الذي يقوم على استخدام الحواس . وصحيح أن العلم يمتحن إدراكات الحواس امتحانا قاسيا ، ويطمح في النهاية إلى وضع مقرراته في أقصي ما يمكن لها من صور التجريد ، أو المعادلات الرياضية ... الخ إلا أنه مع ذلك - وبالرغم من ذلك - لا يمكنه إلا أن يكون ابنا بارا لهذه الحواس ، يرتبط بها أوثق رباط في بدايته ، ومساره ، وغايته على السواء . وقد يبدو لنا - وهو في الحق كذلك - متمردا على حكم هذه الحواس في بعض منطلقاته المبدئية ، إلا أن هذا التمرد ناشئ من جذب الحقيقة له خارج نطاق الحس ، وليس ناشئا مما يظن أنه تحرر من رباطه الوثيق ، ومن هنا فإن العلم لا ينجو - ولا يمكن أن ينجو - من الوقوع في شرك " التزييف الحسي " . ولن أذهب هنا وراء أمثلة ساذجة أو معبرة تعبيرا وقتيا عن الأخطاء التي يقع فيها الحس ، مما نعرفه في مجال نظرية المعرفة ، ولكننا نذكر ذلك النوع من " التزييف " الجبري الذي يقوم به الحس في عملية إدراكه للوقائع ، والذي كشف عنه العلم الحديث في أرقى صوره ولن أقدم مفهوم هذا التزييف بأفضل مما يقدمه برتراندرسل ، إذ يقول : ( العلم يقر بأننا حين " نرى الشمس " تكون هناك عملية تبدأ من الشمس وتجتاز المكان الواقع بين الشمس والعين ، وتتغير خاصيتها حين تصل إلى العين ، وتتغير هذه الخاصية مرة أخرى في العصب البصري والمخ ، وفى النهاية تقع الحادثة التي نسميها " رؤية الشمس ". وعلى ذلك فما أراه ليس هو الشمس التي تبعد عني ملايين الأميال ، بل هو حادثة جاءت كحلقة أخيرة في سلسلة علية ، بدأت من تلك الشمس الفيزيقية .) ويقول ( فنحن نعتقد - مثلا - أن الضوء يشتمل على موجات من نوع معين ، إلا أنه حين يتصل بالعين يتحول إلى عملية فيزيقية مختلفة ، فما يقع - إذن - قبل أن يصل الضوء إلى العين شيء من المفترض أنه مختلف عما يحدث بعد ذلك . وإذن فهو شئ مختلف عن المدرك الحسي البصري . وهذا يعني أن المدرك الحسي الذي يقع في الخبرة لا يكون نفس الشيء حين يتصل بجسم حي ، ويصبح مدركا حسيا بالفعل .) وهو يقول أيضا : ( إن المدرك الحسي يتحول حين يتصل بالجسم الحي إلى " عملية فيزيقية مختلفة " أي يصبح شيئا آخر مختلفا اختلافا تاما . ) ويقول بما يزيد الأمر توضيحا : ( ثمة طائفة من الحوادث تقع فيما بين العين والمخ ، ويدرسها عالم وظائف الأعضاء ، والشبه بينها وبين الفوتونات في العالم الخارجي ضئيل ضآلة الشبه بين موجات الراديو وبين خطبة الخطيب . وأخيرا يصل اهتزاز الأعصاب - ذلك الاهتزاز الذي يتعقبه عالم وظائف الأعضاء - إلى المنطقة المناسبة من المخ فيبصر صاحب المخ النجم . ويتحير الناس لأن إبصار المخ يبدو لهم مختلفا كل الاختلاف عما اكتشفه عالم وظائف الأعضاء من عمليات في عصب الإبصار ، وبالرغم من أنه يبدو من البين أن الإنسان لن يبصر النجم بدون هذه العمليات )( [8]).
4- الأخطاء العفوية : وهى الأخطاء الناشئة عن كون العلم نتاجا إنسانيا يخضع بالضرورة لما يخضع له الإنسان العالِم من ضعف أو قصور في بعض قدراته . ومثال ذلك : فضيحة أشعة ( إن ) كمثال صارخ على أخطاء علمية خطيرة : يقول أيزنك : ( يتضمن تاريخ العلم دلائل كثيرة على الأخطار والغلطات الناجمة عن ثقتنا المبالغ فيها في قدرة الإنسان . وهناك مثال مثير على ذلك وهو الخاص بأشعة (إن) التي زعم البروفيسور م . بلوندلوت أنه قد اكتشفها عام 1902 وهو فيزيائي بارز في جامعة نانس وعضو في أكاديمية العلوم الفرنسية. وقد جاء كشف بلوندلوت بعد اكتشاف رونتجن لأشعة × بست سنوات ، وسرعان ما تأكد هذا الاكتشاف في معامل أخرى على يد فيزيائيين بارزين جدا . وقد تحدد وجود هذه الأشعة برسائل استعين فيها بالعين ، إذ لم يكن في الإمكان تسجيل أشعة (إن) على أجهزة فوتوغرافية . وقد تحدث ا. زفوجت ،.. و... هايمان ، اللذان سجلا هذه القصة في كتابهما ( سحر الماء في الولاياتالمتحدةالأمريكية ) عن كثير من تطبيقات أشعة (إن) هذه ، فقد استخدمها كورسون في الكيمياء ، ودرس (لامبرت ) و صاير أثرها علي الظواهر البيولوجية ، وعلي النباتات أيضا . ووجد شارينتر أن الضغط على أحد الأعضاء يصحبه اطلاق أشعة (إن) ، وفحص بروكا - وهو إخصائي المخ الشهير - العلاقة بين أشعة (إن) والمخ .،،،،..... ومع ذلك فقد حاول فيزيائيون آخرون أن يحصلوا مرة أخري علي أثر لأشعة (إن) ، فحصلوا علي نتائج سلبية ، وقد أثار النقاش اهتماما عالميا عندما وجد أن أشعة (إن) - لا يمكن العثور عليها إلا على أيدي العلماء الفرنسيين ..!!! وأخيرا زار د . ه وود - وهو الفيزيائى الشهير من جامعة جونز هوبكنز - معامل بلوندلوت شخصيا ، ليرى لماذا فشل الفيزيائيون الآخرون في الحصول على نتاجهم . وفيما يلى بعض ماكتبه هو عن زيارته : يقول : ( وهكذا زرت " بلوندلوت" قبل أن ألحق بعائلتي بباريس ، حسب موعد سابق في معمله في وقت مبكر من المساء ، ونظرا لأنه لم يكن يتكلم الإنجليزية ، فقد اخترت الألمانية وسيلة لتفاهمنا ، إذ أردت أن يشعر بالحرية عندما يريد أن يتكلم مع مساعده الذي كان من الواضح أنه مساعد معمل من نوع راق " ، كان وود بالطبع يفهم ويتكلم الفرنسية جيدا ، وقد أراني في البداية بطاقة رسمت عليها بعض الدوائر بلون متألق ، ثم أطفأ المصباح الغازي ، وجذب انتباهي إلى الإضاءة المتزايدة عندما انطلقت أشعة (إن) ، فقلت إننى لم أر أي تغيير ، فقال : إن ذلك يرجع لأن عينيك ليستا حساستين بدرجة كافية . وهكذا لم يثبت أي شئ . وسألته : ما إذا كان في إمكاني أن أحرك شاشة غير شفافة من الرصاص ، في طريق الأشعة بينما هو يحدد التغييرات عبر الشاشة ؟ ولقد كان مخطئا 100 % ، فقد حدد حدوث تغييرات ، بينما لم آت أنا بأي حركة !! ولقد أثبت لي هذا الكثير ، ولكنني أسكت لساني ). ولقد قام ( وود ) بعدد آخر من الاختبارات ، محاولا بوضوح إثبات أن أشعة بلوندلوت غير موجودة إلا في خيالاتة ، فقد زعم بلوندلوت أنه يستطيع أن يرى وجه ساعة معتمة من خلال حائل معدني ، بالاستعانة بأشعة ( إن ) ، ولقد وافق على أن يمسك ( وود ) بالحائل المعدني أمام عينيه ، ولكن ( وود ) كان قد استبدل سرا - دون أن يعرف بلوندلوت - الحائل المعدنى بمسطرة خشيبية ، حيث لم يلحظ بلوندلوت هذا التغيير في المعمل المعتم ، ومع ذلك فقد استمر ( يرى ) الساعة من خلال المسطرة ، مع أن الخشب كان أحد المواد القليلة التي زعموا أن أشعة ( إن ) لا تنفذ منها . ولقد استبعدت علي الفور فكرة أشعة ( إن ) كلها من الفيزياء بعد أن نشر ( وود ) ما اكتشفه من أنها مجرد نتيجة لأخطاء.([9]) هكذا والله أعلم يتبع
------------------------------------------------------------------------ ([1]) الفيزياء والمكروفيزياء ص 128 - 131 - 132 . ([2]) تكوين العقل الحديث ج 2 ص 123 - 124 - 133 . ([3]) نشأة الفلسفة العمية ص 49 - 50 . ([4]) مواقف حاسمة في تاريخ العلم ص 33 . ([5]) نشأة الفلسفة العلمية ص 50 . ([6]) فن الاقناع ليونيل روبي ص 391 - 392 ، ص 388 . [7] ) مواقف حاسمة ص 246 وما بعدها ([8]) أنظر برتراندرسل للدكتور محمد مهران ص 81 - 94 - 95 وفلسفتى ص 15 ([9]) الحقيقة والوهم في علم النفس ص 125 : 127 .