سألتني زميلتي عزيزة ابو بكر الصحفية الشابة اللبقة بمجلة الشباب، أثناء محاورتها لي، وقد جاءتني مسلحة بمعلومات أذهلتني، عن حيثيات حكمي بنهاية عصر العندليب عبد الحليم حافظ وان كنت لمحت موافقتها الضمنية علي منطوق الحكم بعد نقاش ممتد بيننا ان نظرة واحدة علي ما تبثه الميديا يؤكد ما قلته في العام 1998 فالإعلام الرسمي المدافع الاول عن زمن العندليب مع مراعاة انني لست في خصومة معه لا يتذكر حليم الا عند حلول ذكراه في مارس من كل عام، في حين نجد الاعلام الخاص الذي يعطي الأولوية لاحتياجات الشارع نادرا ما يتذكر الحدث، وليس خافيا انك لن تصادفي اغنيات تلك الفترة علي تلك الشاشات! حتي قسم الأغنية الوطنية التي صنعت مجد حليم، تحولت رموزها الي الحلو ومنير وشيرين عبد الوهاب .. فعلام الضجة وليس في البيت طحين؟ واردفت: ان الغناء الكلاسيكي لم يتبق من رموزه علي الساحة سوي نفر قليل، ابرزهم واهمهم علي الاطلاق النجوم الاصدقاء: هاني شاكر، محمد الحلو، محمد ثروت.. وأحيانا أنغام (!)، مع استبعاد الصديق النجم محمد منير الذي يشكل لونا ومذاقا مختلفا تماما حتي عن استاذه وصديقنا الراحل الكبير احمد منيب.. ولعله يكون مجالا لحديث آخر. واقول ان الفن في مصر عشوائيا، يخضع لثقافة ومزاج النجم ، وهناك صراعا دائما بين نجومية المطرب والملحن في مصر، اما المؤلف الشاعر فانه مسكين كثيرا ما تضيع شخصيته امام سطوة النجم؛ كأن يختار النجم موضوع الغنوة أو يفرض بعض الألفاظ والعبارات التي يتصور انها " ها تقلب الدنيا " بناء علي ثقافة بعضهم المحدودة .. وفي معظم الحالات يرضخ المؤلف سعيدا راضيا بما تقاضاه و بتوقيعه الممهورة به الاغنية او حتي الألبوم ! ورغم ذلك يقبل عليه الشباب الذين يقودون سوق الفن في مصر شاء من شاء وأبي من أبي! وعودة الي الغناء الكلاسيكي ولا اقول الطرب فان بعض رموزه بدا وكأنه يغازل التيار الجديد تيار الغناء وتيار الاستماع حتي ان رمز الكلاسيكية الموروثة النجم هاني شاكر ظهر في كليب عن اغنية زميل الجامعة الشاعر محمد القصاص ظهر المطرب المحبوب ممتطيا موتوسيكل، كما ظهر مطرب نجم صديق وهو " يتشعبط " في أتوبيس نقل عام .. بما يعني الرضوخ التام لمفردات الزمن الجديد! ولكن من الجدير بالذكر ان كليهما عاد الي زمنه الأصلي بعدها! وكان السؤال مربكا: الي أي زمن تنتمي كمستمع؟ وقد رددت علي السؤال ولكن عقب انتهاء الحوار قلبت في " الهارد ديسك " الذي اصبح بديلا لمفكرتي الزرقاء ..وعرفت الي اي زمن انتمي والدليل هذه السطور: الموسيقي العربية في ليلة غناء أسطورية قدمت فرقة عبد الحليم نويرة للموسيقي العربية، بقيادة المايسترو المتألق صلاح غباشي، حفلا أعاد الاعتبار للغناء المصري الذي جنح قليلا أو كثيرا خلال الفترة الماضية. عودة الثقة توقفت عند رجال ونساء في الثمانين أطال الله في أعمارهم وهم جيل عبد الوهاب أستاذ ثروت وأستاذنا ولم يكن غريبا أن يصرخ بعضهم في وقار: عبد الوهاب يا ثروت! كما لمحت فتيات ونساء في مقتبل العمر.. الموسيقي العربية وقد بدأ برنامج الحفل بفرقة الموسيقي العربية، وبمقطوعة من مؤلفات الرائع صلاح غباشي، بعنوان " موسيقي الي قرطاج "، ثم من الحان محمود الشريف عبقري الألحان، وكلمات محمد علي أحمد الذي دون سيرة حياة عدد من ألمع نجوم الفن اقتني معظمها مقطوعة " ايه فكر الحلو بيه " وهو أداء جماعي للفرقة التي أسسها العملاق عبد الحليم نويرة واكتسبت سمعة عالمية وعربية، ثم فقرات غنائية للمطربات الشابات المتمكنات: ايمان توفيق، رشا مبروك و رحاب عمر، والأخيرة انتزعت تصفيقا وحماسا ملتهبا من الجمهور بأدائها لرائعة كوكب الشرق "هذه ليلتي". نجم الحفل وبعد استراحة قصيرة صعد نجم الحفل الفنان محمد ثروت، وسط ديكور موفق للغاية يمزج في ألوانه بين الأزرق السماوي الذي ينطوي علي مغزي رومانسي حالم، والأسمر الذي تملؤه نجوم الليل..ليل العشق والغناء والسمر..كل شئ ينبئ عن ان جمهور ثروت كان في انتظاره.. في انتظار الأصالة التي يمثلها..ومن جانبه لم يخزلهم باختياراته المتنوعة، فقد بدأها بالبهجة " يا حلو صبح.. يا حلو طل.. يا حلو صبح نهارنا فل "، ثم عرج الي احدي اغنيتيه الرومانسيتين القديمتين " سندباد ..جايلك يا أميرتي.. ان كان البحر يعلا هاعمل سندباد.." و"في مدينة من المدن.. وفي شارع من الشوارع".. يؤديها والابتسامة لا تفارقه..، ثم مع جرعة شجن من خلال أغنيته الدرامية "حرام" شعر أحد مؤلفينا العظام صلاح فايز وألحان المايسترو الشجي الراحل حسن أبو السعود.. سحر الغناء ثم يستمر السحر.. سحر الغناء مع باقة متميزة من أحلي ما غني نجوم الطرب: بقي عايز تنساني/اياك من حبي/ أشكي لمين الهوا والكل عزالي.. اضحكلهم والبكا غالب علي حالي/لما انت ناوي تغيب علي طول.. والختام كان مع "امتي الزمان يسمح يا جميل" وهذه المرة جاءت بناء علي صيحات جمهور الثمانين والأربعين! هذا الفن لا يجب أن يسدل عنه الستار أبدا.. الآن عرفت انتمائي!