اصطحبت خالتي المسنة في رحلة مباركة لأداء العمرة تحقيقا لرغبتها الملحة في ذلك علي الرغم من ظروفها الصحية الصعبة ، تم ذلك بالتعاون بيني وبين شقيقاتي وقمنا بترتيب الأمور والمشاركة فيها كل علي قدر استطاعتها ، قمت بالحجز في إحدي شركات السياحة ذات السمعة الطيبة ، ووجدت موعدا مناسبا لظروفي وهو 6 / 5 الجاري ، طلبت غرفة مزدوجة ولكن الفوج كان قد اكتمل ولم يبق سوي مكانين في غرفة ثلاثية ، توكلت علي الله ووافقت بعد أن أكدت لي الموظفة المسئولة أن رفيقتنا هي سيدة فاضلة محترمة ومعتادة علي السفر معهم في العديد من المرات لأداء العمرة وعلي مدي سنوات . كانت الرحلة مباركة رائعة في كل تفاصيلها المعروفة لكثير منا ، حتي متاعبها تصبح هينة يسيرة والجهد المبذول تستشعره خفيفا محببا رغم أنك قد لا يمكنك بذله في حياتك اليومية المعتادة ، كانت رفيقتنا ( نادية ) سيدة رقيقة منظمة متواضعة ومريحة ولم تزعجها حالة خالتي وما تتطلبه من العناية بل أصبحت تشاركني في ذلك كلما استطاعت ، وبدأ حبل الكلام يتصل بيننا عن الأولاد والعمل والبيت . كانت توقظني برقة وحزم لصلاة الفجر وننزل سويا ونذوب كقطرات الندي في خضم البشر من حولنا ، سبحان الله أشكال وألوان من النساء ولغات ولهجات تتداخل وللكل وجهة واحدة ولا يكاد أحد يلتفت لمن حوله بشكل يذكرك بيوم الموقف العظيم ، يوم لا ينفع مال ولابنون إلا من أتي الله بقلب سليم . لمحت اسمها يوما علي ظرف في يدها فأثار استغرابي بعض الشئ فهو لا يشبه أسماء المسلمين ، ولكني تذكرت حين كان زوجي ( كمال حبيب ) سجينا مع غيره من أبناء الحركة الإسلامية وكان ضابط السجن يؤكد استحالة وجوده بينهم قائلا ( هنا جماعات إسلامية فقط ) فقد التبس عليه الاسم ، خاصة أن اسمي أنا أيضا كان يحتمل ذلك . سألتها عن اسمها فقالت : ( لابد أنك تعرفين ، ألم تخبرك شركة السياحة أنني كنت مسيحية وأسلمت ؟ ) كانت مفاجأة كبيرة بالنسبة لي ، وحملت قصتها الكثير من المعاني العميقة والتي تجعلنا نتجنب الأحكام القطعية والرؤية الأحادية للناس ، قالت : كنت طالبة جامعية في أوائل السبعينات أنتمي لأسرة مسيحية متوسطة مستورة ومحترمة في أحد الأحياء القديمة والعريقة في القاهرة ، كنت أصغر إخوتي وكانوا جميعا قد تزوجوا وبقيت وحدي مع والدتي ربة البيت الممتازة التي اشتهرت بين جيرانها بمهارتها وخبرتها في إدارة البيوت وكنت تعد مرجعا لهن جميعا مسلمات ومسيحيات علي السواء ، كان المناخ العام وقتها مختلفا تسوده روح التسامح والمودة ولذلك لم يكن غريبا أن تجمع صداقة عميقة وممتدة بين أمي وجارتها في الشقة المقابلة ( أم خالد ) وهكذا نشأت علي أن (هدي ) ابنتها هي بمثابة أخت لي خاصة أنها كانت زميلتي في كل مراحل الدراسة ، كانت ( أم خالد ) تستعين بوالدتي في المناسبات لمهارتها في ترتيب مائدة الطعام وإعداد الأصناف المميزة منه ،وكانت أمي تعتبرها مستشارتها الأولي وكاتمة أسرارها ، ولأنني كنت متدينة فقد بدأ حوار ونقاش بيني وبين ( خالد ) الطالب في كلية أصول الدين وكنت أفحمه وأغلبه في النقاش ، كان الحوار وقتها أيضا يتخذ شكلا مختلفا ليس فيه تعصب ولا تشنج ولا تبادل اتهامات بل مجرد حوار فكري هادئ هدفه الوصول للحقيقة أو علي الأقل الاقتراب منها أو حتي مجرد توضيح وجهة النظر . يوما ما دخل شقيقه( طارق) طرفا في الحوار وكان هذا غريبا عليه وهو ضابط الشرطة الوسيم اللاهي العابث ، ولكنه تحمس للمعرفة وصار يسأل سجناء الحركة الإسلامية عما غمض عليه وعن الأسئلة الحرجة التي لا يعرف إجابتها وبدأ أيضا يقرأ ويتعمق في دينه ، وهكذا امتد الحوار بينهما حتي أشهرت نادية إسلامها عن قناعة وإيمان تام . كان الله لطيف بها وبسرعة استوعبت أسرتها هذا الزلزال خاصة أن والدها قوي الشكيمة كان قد توفاه الله ووالدتها أوهنتها الشيخوخة وإخوتها قد انشغل كل منهم بحياته واستغرق فيها ، تزوجها ( طارق ) وكان يشعر برابطة أعمق من الحب قد ربطت مصيره بمصيرها ، وحين كان الناس يقولون له ( لقد تمت هدايتها علي يديك ) كان يرد ( بل أراد الله أن تكون هدايتي علي يديها ) فقد تغير بشكل جذري وصار دينه هو محور حياته ، رزقهما الله ابنهما البكر الذي كان لابد أن يكون ( محمدا ) وكانت أمنيتها بعد ذلك هي أداء فريضة الحج ، وقد حققها الله للأسرة الصغيرة وهكذا حملا طفلهما الرضيع وأدوا فريضة الحج ، ولأنها كانت متحمسة مبهورة فقد كانت تشق علي نفسها وتنسي حتي طعامها وشرابها وكانت أول محنة تصيبها فقد أصابتها جلطة في الساق عولجت منها وتركت أثرا بسيطا . 17 عاما كان فيها الكثير من الشهد والقليل من الدموع قضتها مع زوجها ورفيق رحلة حياتها ووالد أبناءها الذين صاروا أربعة ، وفجأة وأثناء أداء عمله جاءها خبر موته ، الذي لم تفق من صدمته حتي يومنا هذا ، فقد كان هو كل حياتها وكل أهلها قالت لي برقتها المحببة ( خلي بي وتركني وحدي ) لكنها استعانت بالله وأصبحت حياتها تدور حول محورين ، تربية الأبناء علي أعلي مستوي ، والتقرب الدائم لله سبحانه وتعالي بكل صور التعبد من علم وفقه وعبادات . هل كان زوجها يقف يوما ما ضد زوجي ورفاقه ؟ ربما ولكن الحياة تمنحنا جميعا فرصا متعددة وكثيرة لتظهر معادننا وتخرج المخبوء في نفوسنا ، قال تعالي ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) ( آل عمران 140 ) ليس كل من وقف يوما في صفوف المتدينين المدافعين عن دين الله قد أخذ حصانة أو رتبة طول العمر والعكس أيضا صحيح ، العبرة بالخواتيم والقبول ، نسأل الله العظيم أن يكتبنا من المقبولين . [email protected]