مادام لديك تليفزيون، فمن الصعب ألاّ يستدرجك أحد الدعاة المنتشرين علي القنوات يهدون عباد الله إلي صراطه المستقيم، هؤلاء غالبا ينفردون بالشاشة، يساندهم مقدّم البرنامج وكأنّهم رتّبوا عن عمد ألاّ يطالهم رأي المشاهد، وقداستوعبوا واقتنعوا بضرورة "لجم العوام" من أمثالنا عن علم الكلام! غالبا ما ألجأ لتهدئة مالا يتقبّله عقلي فيما يقولونه، إلي عبارة الإمام حسن البصري حين دخل مسجدا فاستمع إلي واعظ ،ولمّا لم يتأثّر بوعظه ،قال له: إمّا أن يكون في قلبي أو في قلبك مرض !وموضوع مناط التعقّل والتدبّر والتفكير والتواصل في الإنسان،هل هو القلب أم العقل أم ما هوعلي وجه التحديد؟ ورد هذا الأسبوع في حديث الدكتور محمّد هداية في برنامج طريق الهداية الذي يقدّمه التليفزيوني الإسلامي المتحمّس علاء بسيوني. ليس هناك مايمنع ،أن نفكّر جميعا في هل تعمي الأبصار أم تعمي القلوب التي في الصدور؟ أو فيما وقر في القلب وصدّقه العمل، أو أنّ في الإنسان مضغة إذا صلحت صلح كلّ شيء، ألا وهي القلب إلي آخر الفؤاد والألباب والعقل ممّا ورد في آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول (صلي الله عليه وسلم).. وأخيرا تظهر الجينات، وياله من سباق محموم الآن يطرحه العلم الحديث، يتعدّد أمامه ما يدرك به الإنسان واقعه، ويحاول به فهم ألغاز حياته وموته والتفكير في خالقه . يأتي الدكتور هداية، ليعقّد مايبدو سلسا، حين يحاول أسلمة كلّ شيء! فيقدّم في الحلقة المذكورة تبريرات وتعليقات وتفسيرات لن تجد لها ناتجا عمليا، بقدر ماتشحن المشاهد غير العارف ،بالتراشق بين أصحاب الأديان، كما تخفّف المسئولية علي عاتق المتطرّفين والمتعصّبين . يؤسفني أن أقول أنّ بعض دكاترة الخطاب الديني هم في الحقيقة جزء من مرض هذا الخطاب، يساعدون، علي توليد قدر كبير من الانفعالات ولكنّهم يفشلون حتّي الآن في صنع ثقافة مضادّة للتعصّب والتطرّف والفتنة. غاية جهدهم وليتهم بقادرين! أن يوفّروا للمسلمين، ملجأ آمنا من مصائب الدنيا والمجتمع بمحاولة دمجنا في صراعاتهم اللفظية دون أي اعتبار لزيادة اغترابنا عمّا يطرحه مجتمعنا وعصرنا من مترتّبات جديدة. ولأنّ محاولة أسلمة كلّ شيء، توقع صاحبها في تفكير قمعي مغلق ومدمّر للاستنارة، يخرّب كثيرا ممّا هو إنساني فعلا، فقد تحدّي الدكتور هداية، أن يغير العلم ضمير الإنسان. نجح العلم في تغيير القلب والكلي والكبد، وقد يمكن له تغيير فص أو بعض فصّ من المخّ أيضا، لكن أنّي له بهداية البشر! التي أوكلتها السماء إلي الدكتور هداية وعلاء بسيوني ومن لفّ لفّهم من الخائفين علي الإسلام! وفي هروبية شديدة يستحثّ تفسيره للنصوص لتقنين التبصّر والتدبّر والتفكّر والتعقّل فيما يفهمه هو من تفسيرات للدين، يحصرنا - قصد أم لم يقصد-عن ارتياد خضمّ تحوّل تطوّري هائل.. تطوّر يجري الآن فعلا في داخلنا ومن حولنا. نتغير نحن كلّما تكشّف لنا هذا التحوّل، وعيبنا الوحيد أنّنا لانستطيع أن نسخر معه في أن يكون هناك - في يوم من الأيام أستاذ بالجامعة في مادّة تحسين ضمير الإنسان! وكما تراءي لطريق الهداية علي قناة دريم أن يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنّ وصايا السماء :لاتقتل، لاتسرق، لاتزن، لاتكذب ..هي أيضا من مهام آخرين علي رأسهم علماء الطبيعة والكيمياء والطب والبيولوجيا.. يلفت النظر، الأفق الصغير للتجاوب الواقعي مع مشاكل العصر الذي يقدّمه هذا الكمّ الضخم من البرامج والقنوات الدينية، التي وضعت الإعلام علي سطح صفيح ساخن في الأيام القليلة الماضية. إنّني اعتقد أنّ هناك الكثير ممّا نكسبه إذا اتّجهنا نحو القصّة الكبري، وليس من يستطيع ألاّ يشارك، أو يلتفت إلي الجهود المبذولة لكشف تحكّم الوراثة في الكثير من الكائنات ومنها الإنسان، وليس من كائن يسحرنا مثل أنفسنا، وقد استرعي العلماء اكتشاف مجاهل الجينات، المصطلح الذي صكّ سريعا للتعبير عن العوامل الوراثية السائدة والمتنحية التي توجد علي الكروموزومات، تلك الكيانات الدقيقة خيطية الشكل الموجودة داخل نواة الخلية. وياله، من عالم فسيح وواقعي للبحث في تدهور الإنسان والمجتمع. في كلّ مرّة يشرق أمل ، فنعرف لماذا تضلّ خلايا الإنسان، فتارة يحدث المرض الفظيع، وفي مكان ما من غبش التجريب قد نتعرّف علي الضمير ونعرف من هو الشيطان!