نادراً ما تكون العلاقة بين أنظمة الحكم والمثقفين طيبة فالمثقف بطبعه ناقد للأوضاع وتقع عينه دائماً علي السلبيات ويعمل عقله دائماً في اتجاه الإصلاح ويتحدث لسانه عموماً في أماكن عدة ومناطق لا يروق للأنظمة أن يسمع الناس فيها نقداً أو مطالب بالإصلاح أو مواجهة السلبيات. وغالباً ما «تطنطن» أنظمة الحكم بالعبارة الشهيرة التي أطلقها وزير دعاية هتلر النازي جوبلز: "عندما أسمع كلمة مثقف أتحسس مسدسي" لتوحي للمثقفين ولعامة الناس بأنها "سمن علي عسل" مع المثقفين، وأن زمن المواجهة بالرصاص انتهي مع غياب هتلر وجوبلز والنازية وأن الخلافات مع المثقفين "هي من أجل الصالح العام" وأن المثقف الفلاني "دماغه ناشفة فقط" أو أن المثقف "العلاني" لم يطلع علي تفاصيل الأمور.. وحين يدرك التفاصيل سيتحول من معارض إلي مؤيد، علماً بأن صاحبنا المثقف لا هو معارض ولا يحزنون وإنما مجرد مثقف أو ناقد أو إصلاحي لا غير. الحديث هنا ينصب علي المثقف الحقيقي وليس مدعي الثقافة أو راكب موجتها أو المتاجرين بها، خصوصاً بعدما تحولت شبكة "الانترنت" عموماً وموقع "فيس بوك" خصوصاً إلي مجال خصب ووسيلة مهمة لعرض إبداعات المثقفين وآرائهم، إضافة بالطبع الي كون الشبكة مجالاً والموقع مرتعاً لأدعياء الثقافة وركاب موجتها. علي ذلك فإنني شخصياً أتحسس عقلي وأتلمس أفكاري وأختبر قدراتي واستخدم خبراتي كي أفرق بين ما هو ثقافة وبين ما لا علاقة له بالثقافة أو الإبداع، ومثل غيري أضحك علي "إنتاج" بعضهم شعراً ونثراً وأدباً علي الشبكة العنكبوتية، لأنه لا يمت للشعر أو النثر أو الأدب بأي صلة ولكن أصحابه يعتقدونه كذلك ولا يقبلون بنقده ناهيك عن رفضه، ويرضون أنفسهم بتعليقات أصدقائهم التي تدخل في باب المجاملة ويصدقون أن ما ينتجونه "جامد موت" أو "حلو آخر حاجة" أو "فظيع طحن". شخصياً عرفت عن طريق "فيس بوك" مئات من أصحاب الإنتاج "الجامد موت" وأتفادي عادة من باب اللياقة واللباقة والكياسة التعليق علي ما ينشرونه حتي لا أحرجهم أو أنبههم إلي الأخطاء اللغوية والنحوية والمنطقية فيما يكتبون، لكن في الوقت نفسه عرفت عشرات آخرين جعلوني أحمد الله علي نعمة "الانترنت" وخير "فيس بوك" حيث أتيح لهم الظهور عبر وسيلة سهلة وبسيطة ومؤثرة وفعالة لعرض إنتاجهم الذي يدخل وبقوة في باب الإبداع. بين يدي كتاب جديد، بداية من غلافه حتي الصفحة الأخيرة منه يضخ في عقلك محفزات لقراءته دون أن تتركه ويتناول موضوعاً شائكاً ولكنه مهم يتعلق بالعلاقة بين المسلمين والأقباط في مصر، يحكي وقائع عاشها اثنان من الأصدقاء أولهما مسلم: مصطفي الصياد، والثاني قبطي: مينا شنودة. وهما استطاعا، وعبر لغة راقية ومشاعر صادقة وثقافة عالية ووعي شديد التحرر من قيود الديانة، وانطلق الي رحابة الإبداع، حذراً من مرض قد يصيب "رأس السلطة" وقبل أن يذهب عقلك الي التساؤل عن: أي سلطة يقصدان؟ فإن الكاتبين سارعا الي التوضيح بأنهما يقصدان سلطة العقل علي صاحبه. يحمل الكتاب اسم "استيجماتيزم في المخ" وفي مقدمته توضيح لمعني العنوان: "تحول ذلك الاستيجماتيزم من كونه مشكلة إلي خطورة حقيقية عندما تعدي حدود البصر ليصل الي البصيرة أي إلي جذور المخ ورأس السلطة"، والمقصود هنا: "سلطة المخ علي أفكارك وتوجهاتك الشخصية". في شأن المسألة الطائفية في مصر حذر الكاتبان من "تحول المرض الي وباء لا علاج له يجرف في طريقه الأخضر واليابس ما لم ننهض جميعاً بثورة عقلية وفكرية مضادة للوقاية منه سريعاً واقتلاع جذوره خير من علاج بلا جدوي". لم يكتف الصياد وشنودة بسرد وقائع مرت بكليهما ولكنهما تناولا مفردات في الموروث الثقافي المصري رسخت الفرقة بين المسلمين والأقباط وصار المصريون يرددونها دون أن يعوا مدي خطورتها، وبين ما كتبه الاثنان: "في يوم العطلة يذهب الي النادي ليلعب مع رفاقه كرة القدم.. أتي وقت العودة فتشابك يده يد والده ليحدثه عن اكتشافه بينما هما في الطريق الي السيارة: بابا.. بابا.. كنت بالعب النهارده مع واحد مسيحي.. بس والله طلع كويس".