لا تستطيع أن تتجاهل فيلمًا يخرجه المخرج الأمريكي «أوليفر ستون» لسببين هامين: الأول هو أنه من المخرجين أصحاب الرؤية السياسية والموقف الواضح من ظروف مجتمعه وعالمه، والثاني لأنه يقدم هذه الرؤية بدرجة واضحة من الاحتراف المهني والصنعة الفنية مما يحول دون أن تصبح بعض أعماله مجرد مظاهرة دعائية فارغة، ومفهوم الصنعة عند «ستون» - مثل أي مخرج كبير - يبدأ من «الورق» أو السيناريو، وكما نعرف فإنه أصلاً كاتب سيناريو محنّك وموهوب قبل أن يصبح أحد أهم مخرجي السينما الأمريكية. هاتان هما الميزتان اللتان جعلتا من «ستون» أحد الذين ينتظر النقاد أعمالهم، ولكنك تشعر بالحيرة فعلاً بعد مشاهدة فيلمه wall street - maney dont sleep أو «وول ستريت - المال لا ينام» وهو الجزء الثاني من فيلمه الشهير «وول ستريت» الذي عُرض عام 1987، ومصدر الحيرة في هذا المزيج الواضح من ارتباك الرؤية والتشوش المصحوب ببعض السذاجة في المعالجة، وفيما يتعلق بالصنعة الفنية التي تبدأ كما اتفقنا بالسيناريو، فأنت أمام مشكلتين مزعجتين تمامًا، الأولي تتعلق بالطريقة التي رسمت بها الشخصيات الثلاث الأساسية في الفيلم وهي «جوردون چيكو» وابنته «ويني» وصديقها الذي ينوي الزواج منها «جاكوب مور» والثانية تتعلق بالنهاية العجيبة للفيلم، وكأن البناء أصرّ في النهاية علي الإنهيار كما أنهار سوق الأوراق المالية الأشهر في عام 2008. لنعد قليلاً إلي الجزء الأول الذي لعب بطولته «مايكل دوجلاس» و«شارلي شين» في هذا الجزء كان التركيز علي تعرية الصراع وراء المال من خلال المضارب الخبير والمضارب المبتدئ، الشاب «بادفوكس» (شارلي شين) يريد الصعود والحياة السهلة الفاخرة والخبير المحترف «جودون چيكو» (مايكل دوجلاس) يعلمه أصول اللعبة رافعًا شعاره الشهير: «الجشع شيء جيد».. كل شيء ممكن من أجل الحصول علي مزيد من الدولارات، ولكن اللعبة خطرة، ومن يسقط تدوسه الأقدام، ولذلك سيبدأ الجزء الثاني من عام 2001 حيث يخرج الخبير «چيكو» من السجن بعد أن قضي فيه ثماني سنوات بتهمة التربُّح والتلاعب، وكان قد أمضي 5 سنوات في محاكمات لا تنتهي يحاول فيها النظام الرأسمالي تصحيح أخطائه. اختار «ستون» أن يكون محور الجزء الثاني الأزمة الاقتصادية الكارثية التي حدثت عام 2008 عندما انهارت مجموعة من أهم البنوك الأمريكية علي خلفية إقراضها اللامحدود للأفراد من أجل امتلاك ثروات عقارية، وبسبب فشل الأمريكيين في تسوية هذه الديون أصبحت هذه البنوك في حاجة إلي إنقاذ ومساعدة حكومية في تصرُّف وصف بأنه نوع من التأميم في مجتمع رأسمالي. هذا هو الإطار العام للجزء الثاني الذي يبدأ مع خروج «چيكو» من السجن. بعد مشهد البداية التمهيدي عام 2001، نقفز فورًا إلي عام 2008، ونتابع علي مدار هذا العام العاصف الأحداث الكارثية وما قبلها وما بعدها، وبعد أن تكتمل الدائرة يظهر العيب الواضح الذي تحدثت عنه بالطريقة الملتبسة التي رسمت بها الشخصيات: المضارب العجوز «چيكو» لن تعرف بالضبط هل هو يريد النقود ويدمن المنافسة لحبها كما يقول، أم أنه تعلّم من سجنه أن هناك أشياء أهم مثل الوقت كما يقول أيضًا، وصديق الابنة «جاكوب مور» (شيالابوف) لا تفهم هل هو ناشئ جديد في نادي جمع الثروات السهلة من سوق المال، أم أنه صاحب رؤية شاملة لمشروعات منتجة تفيد الإنسان مثل تدعيم برنامج لإنتاج طاقة صديقة للبيئة، وفي الفيلم ما يؤيد كلا الاتجاهين، وحتي الابنة ويني» (كاري موليجان) يقدمها الفيلم باعتبارها فتاة يسارية تكره المال، وتدير موقعا بعنوان الحقيقة المجمدة يفضح أساليب النظام الرأسمالي وثغراته، ولكنها سرعان ما توافق علي أن تحصل علي النقود التي أودعها والدها باسمها في «سويسرا»، وتوافق علي ما يشبه غسيل هذه الأموال التي وضعها قبل دخوله السجن بتهمة التربح. ونتيجة هذا الرسم المتناقض للشخصيات جاء تصرفاتها شديدة التناقض: «جاكوب» يستغرق وقتا طويلا منغمسا في الإضرار برجل البنوك «بريتون جيمس» (جوسن برولين) لأنه تسبب في الإضرار بأسهم البنك الذي كان يديره «لويس زابيل» (فرانك لوجيلا)، فانهار البنك وانتحر «لويس» وغضب «جاكوب» لمصرع والده الروحي فقرر الانتقام له، وهكذا ينشر «جاكوب» الشائعات لكي ينهار بنك «بريتون»، ولكن الأخير ينجح في توظيفه لديه، وهنا يتحول «جاكوب» الذي ارتكب جريمة التأثير علي الأسهم بالأكاذيب إلي صاحب مخطط لجلب استثمارات تساعد شركة الطاقة البديلة علي إنجاز مشروعات تخدم الإنسانية، أما «ويني» فهي أجمل يسارية رأيتها في حياتي، ومشكلتها مع والدها لا علاقة لها بنشاطه الرأسمالي الطفيلي بقدر ما يتعلق باعتقادها أنه مسئول عن مصرع شقيقها المدمن «رودي»، ولكن بعد دمعتين من الأب تذوب في أحضانه، وكأن شيئًا لم يكن، كما أنها توافق علي عمل صديقها مع بنك «بريتون جيمس» وتقبل أن تتسلم المائة مليون دولار بعد سنوات من الرفض، وهكذا تدخل شخصية «ويني» دائرة الضباب التي تحيط بأبطال الفيلم الثلاثة. ويتبقي «جيكو» في طبعته الجديدة، والحقيقة أن الشخصية رُسمت بطريقة شديدة الجاذبية، في الجزء الأول من الفيلم يتقمص «جيكو» دور السجين التائب، ويؤلف كتابا بعنوان «هل الجشع جيد؟»، ويحاول أن يصالح ابنته، ويساعد صديق ابنته «جاكوب» علي تحطيم «بريتون جيمس»، ثم نكتشف أنه فعل ذلك لمجرد استعادة المائة مليون دولار من ابنته، وينجح فعلا في الهروب إلي لندن، ومرة أخري يتحول «جاكوب» إلي شيطان يبحث عن المال، فيساوم حماه علي الحصول علي المائة مليون دولار ليستخدمها في مشروع الطاقة البديلة النظيفة في مقابل أن يمنحه حفيده من ابنته «ويني»، واتساقات مع شخصيته الجشعة يرفض «جيكو» العرض، ونتنفس الصعداء لأننا رسينا أخيرا علي بر، وأصبحنا أمام نهاية معقولة نسبيا. هنا تدخل النهاية العجيبة المفتعلة حيث تنقلب مواقف الأطراف الثلاثة بطريقة لا علاقة لها بأي شيء: «جاكوب» الذي قام بالتأثير علي الأسهم بالشائعات، والذي وافق علي فكرة غسيل الأموال يصبح شريفا من جديد بفضح عمليات «بريتون» القذرة علي الموقع الذي تديره اليسارية «ويني»، والأخير ة التي اكتشفت أن «جاكوب» نسخة مصغرة من والدها الجشع توافق علي أن تنشر له حملته ضد فساد البنوك، أما «جيكو» الذي رفض صفقة إعادة المائة مليون دولار، فيظهر من جديد في نيويورك ويتنازل عن المبلغ الذي هو أموال مغسولة لصالح حفيده القادم باعتبار أن عشق المال فاني وعشق الأحفاد مالوش آخر! لعلك قد لاحظت عزيزي القارئ أن الحكاية التي بدأت محاولة غسيل القلوب من ذنوب الماضي قد انتهت بمؤامرة للسيطرة علي مائة مليون دولار من الأموال التي تم غسيلها في بنوك سويسرا وستصب هذه الأموال لتمويل مشروع الطاقة النظيفة المولدة من مياه البحر أما الفتي الشرير بعد كل هذا اللف والدوران فهو بريتون جيمس الذي يحاسبه الكونجرس حساب الملكين أما جاكوب وجيكو وجميلة جميلات اليسار الأمريكي ويني فحلال عليهم المائة مليون دولار والحفيد القادم الذي ربما يصبح بطلا للجزء الثالث ولك أن تتخيل طفلا والده جاكوب وجده الأخ جيكو. طيب تعالي بعد ذلك نسأل أنفسنا ما الذي يريد ستون أن يقوله هل يتحدث بوضوح عن فشل النظام الرأسمالي بأكمله لأنه يتيح الفرصة لإثراء دون إنتاج عن طريق مضاربات البورصة؟ إذا رجحنا ذلك فكيف نفسر ما يؤكد العكس فالنظام يمتلك آليات للسيطرة علي الفساد مثل مساءلة بريتون ومثل سجن جيكو نفسه وسجن تلميذه شارلي شن الذي يظهر في مشهد واحد بعد خروجه كيف يكون الفيلم ضد النظام الرأسمالي ونحن نسمع عبارة تؤكد أنها مجرد دورات انهيار ثم صدور كيف يرفض الفيلم هذا النظام وقد تم حل كل القضايا بنهاية متفائلة واحتفال مبهج للجميع بعد أن تم غسيل الأموال وتحويلها إلي نشاط ينتج طاقة نظيفة لبني الإنسان؟ الحقيقة أن الرؤية بأكملها غير واضحة بشكل قاطع وأن كان الفيلم علي الأرجح يحصر المشكلة في الجشع الإنساني وليس في الفلسفة الرأسمالية التي تجعل لكل شيء ثمنًا بما في ذلك الجنين الذي يعيش في عالم الغيب وليس هناك من حلول سوي بهذه التحولات المفاجئة في سلوك الشخصيات ليتنازل جيكو عن الملايين بعد طول رفض ومن يدري فربما يصر في الجزء الثالث علي استعادتها؟! هذه المشاكل سابقة الذكر قاتلة تماما وبذلك لم ينجح في التخفيف منها الأداء المتميز للأبطال الثلاثة مايكل دوجلاس بحضوره المذهل وشيا لابوف بنجاحه كل وجوه الشخصية المتقلبة والجميلة كاري موليجان التي بدت شخصية رومانسية حالمة رغم هذا الاتقان لم تكن أي شخصية مقنعة لعيوب السيناريو ولم تفلح محاولة ستون لكسر إيقاع عالم المال والبورصة بكل تفصيلاته المعقدة بمزج الصور وتقسيم الشاشة وتحويلها إلي ما يشبه اللوح المرسومة مستلهما عالم الفيديو آرت لم يفلح كل ذلك في التغطية علي رسم الشخصيات العجيب وعلي النهاية المفتعلة كانت اللقطات السائدة هي القريبة المتوسطة والقريبة المكبرة التي تكشف انفعالات الشخصيات ولكن ضباب السيناريو أضاع ملامح كل شيء فاختلاط الحابل بالنابل ولم نعد نفهم هل الجشع شيء جيد أم أن عشق الروح مالوش آخر.. لكن عشق الجسد فاني؟!