للثقافة مثلث متساوي الأضلاع، تنحصر بداخله جميع الإشعاعات الإبداعية في سباعية الأدب والفن التي تبدأ بالشعر وتنتهي بالفن السابع وهو السينما ، وفي جميع الحالات لابد من وجود الأضلاع الثلاثة التي ينبثق من داخلها ما يضيء عقول الناس وبصائرهم ويهدي خطواتهم إلي صحيح الأقوال والأفعال أيضا بل ويرشدهم إلي معني التفوق . الضلع الأول في هذا المثلث الافتراضي هو بالطبع المبدع نفسه ، والضلع الثاني هو المتلقي بالصوت والصورة وبالحرف والكلمة أما الضلع الثالث فهو الناقد الذي يبدي رأيه فيما يري أو يسمع وفيما يقرأ أيضا. ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن يبهت أحد هذه الأضلاع أو يغيب لما في ذلك من غبن يقع علي رأس أي عمل فيه إبداع يجب عرضه علي الجماهير ، فهل يستقيم قرض الشعر دون تذوق النقاد له أولا ثم تقديمه إلي جمهور القراء؟! وهل الصواب هو ترك الحبل علي الغارب لكل من تسول له نفسه الكتابة في أي من القوالب المعروفة دون الحصول علي جواز المرور اللازم كي يتقبل المتلقي من القراء هذا الإنتاج الأدبي في حدود الصلاحيات المعروفة والمدروسة من حيث مستوي الأفكار ونوعية الألفاظ وشكليات تراكيب الجمل والفقرات مما يجعل القارئ يشعر بالمتعة أو الإعجاب لما يتلقاه. لقد غاب الضلع الثالث منذ زمن رغم كثرة المعروض مما أدي إلي تشوه الصورة العامة للإبداع أيا كان نوعه؟! ولم يعد هناك مجال للمتابعة والاهتمام من النقاد ومن الجمهور أيضا مما يدفع للمزيد من الإنتاج الأدبي والفني والثقافي وصارت الحياة الثقافية بلا لون أو طعم أو رائحة. لم يعد هناك مساجلات بين المبدعين والمتلقين أو بين الاتجاهات الفكرية والفنية المتباينة ، أكاد أقول إن كل المتاح حاليا علي الساحة يشبه الأطعمة السريعة التحضير تتشابه في الشكل وفي المذاق وليس لها نكهة مميزة عند تناولها بدلا من وضوح الفوارق بين كتابات وإبداعات الأجيال السابقة؟! ويكفي قراءة عنوان كي تشعر بما أبدعه إحسان عبد القدوس أو محمد عبد الحليم عبد الله، كما يكفيك الاطلاع علي غلاف كتاب أنتجه توفيق الحكيم أو يحيي حقي، وما يحدث في الشعر يحدث كذلك في القصة والرواية والمسلسل وحتي المقال لم يبق هناك كيانات متميزة بين أي من الكتاب ، قديما كنت تعرفهم بسيماهم الأدبية وألوانهم الثقافية ولكن الآن كله عند المتلقي صابون ؟! كان النقد هو سيد الموقف في أوائل القرن الماضي تفرد له صفحات وله قراؤه ومبدعوه وجميع من له قلم أو ريشة ، بل كان بعضهم يجمع بين النقد والإبداع وذلك من خلال مباريات ثقافية تجري في العلن وعلي رءوس الأشهاد وفي صفحات منشورة ومتتاليات معروفة ومتابعات منظومة. من بين الأسماء اللامعة في حقل الأدب وحدائق الإبداع كثير من فطاحل النقاد في مصر فيما مضي بل كان لهم باع في الأدب والثقافة من كتابة ومن نقد من بينهم لويس عوض ومحمد مندور وعلي الراعي ومهدي علام وحسين مؤنس وعميد الأدب طه حسين، ومن تصاريف الحياة البائسة التي نحياها أن الجيل الحالي لم يتعلم شيئا، فلم يعد هناك كتاب شيق للمطالعة مع كتاب آخر في النحو والصرف، وكتب أخري في النصوص والنقد والبلاغة ، يوازيها كتب في الشعر وفي الرواية ويقوم علي ذلك كله هيئة تدريس واعية وبيوت محبة للعلم والدراسة في ظل حرية فكر وعقيدة وبين الرأي والرأي المختلف حتي داخل الفصول والمدرسة امتداداً للديمقراطية البسيطة في دواوين العمل والمصالح فما بالكم بمقار الأحزاب وما يصدر عنها وبكل أدب واحترام وبلاغة التعبير داخل البرلمان الذي لم يرتفع فيه نعل ولا حذاء إلا في القرن الحالي؟! كاتب وأستاذ جامعي