في المقالين السابقين تحدثت عن مفاهيم جديدة مرتبطة بالعنف ومحفزاته.. وشرحت نقلا عن دراسات حديثة كيف يتحول ما نراه من مشاهد عنف في الدراما وغيرها من وسائل الإعلام إلي مجرد نموذج يخزنه العقل لكيفية تخريج الغضب بشكل عنيف ولكنه لا يكون هو الدافع وراء الغضب.. وتعرضت أيضا لدور الإعلام في خلق محفزات العنف ليس بعرض نماذج لها كما ذكرت قبلا بل بطريقة صياغة وعرض الأخبار المختلفة مع توقع رد فعل الجماهير وإغضابهم أو تهدئتهم حسب إرادة ووجه صانع الخبر.. ولكن المحفز الأقوي علي المستوي العالمي للعنف هو العبث بالثوابت الإيمانية والعقائدية للشعوب أو الجماعات أو الأشخاص علي حد سواء.. وليس خافيا علي أحد أن دوران عجلة التاريخ يؤدي إلي تعاقب سيادة الأفكار العقلانية تارة ثم الميتافيزيقية أو ما وراء الطبيعيات تارة أخري.. فإذا ساد التفكير العقلاني والمادي علي فترة من الزمن ووصل إلي التطرف تلاه عصر يهتز فيه عرش العقل المجرد وحكم الماديات ويغلب التفكير الروحاني والتعاطي مع غير الماديات.. واللجوء إلي عالم ما وراء الطبيعة.. وبالرغم من أن التطرف العقيدي قد اجتاح العالم في العقود الأخيرة من القرن الماضي، إلا أن التقرب من الروحيات لم ينجح في عصر ما بعد الحداثة في التغلب علي الماديات والانتصار عليها.. فصار عصرنا الحالي خليطا مذهلا من التطرف العقيدي من ناحية والتطرف المادي من ناحية أخري وهما تطرفان مختلطان في مختلف حضارات هذا القرن العجيب.. وقد أدي هذا إلي اجتياح العنف بصورة غير مسبوقة إذ اختلطت الغيرة العمياء علي الثوابت الإيمانية بالرغبة في تجسيد غلبة تلك العقيدة رغما عن الآخر بشكل مادي.. بمعني أن تمسك الجماعات بعقائدها صار مرتبطا بفرض تلك العقائد علي الآخر من ناحية.. ومحاولة حمايتها بالقوة المادية بدلا من الروحية من ناحية أخري.. وقد نتج عن ذلك تنامي الشعور بالغضب عند أصحاب أي عقيدة إذا قام آخرون بانتقادها أو المساس برموزها.. وتتم ترجمة هذا الغضب الشديد باللجوء إلي العنف ظنا من أصحاب كل عقيدة أنهم يقومون بحمايتها.. وهكذا حول البعض الفكر الروحاني والإيمان بالغيبيات وبقوتها إلي جبهات مادية وكيانات بشرية تعتمد علي أتباع العقيدة وقدراتهم علي حمايتها والغضب لأجلها وليس العكس.. علي الرغم من أن الأصل في الإيمان بالروح هو قوتها الأكبر من قوة الجسد.. ولكن اختلاط المفاهيم وذوبان المادية البحتة في نفوس البشر في عصر ما بعد الحداثة أدي إلي هذا الغضب الجديد والذي اعتمدت شهادته كمحفز ضخم من محفزات الغضب الذي قد يمتد ليصبح غضبا جماهيريا لا تحمد عقباه.. ولأن الدول والحكومات وعقلاءها إنما يتعاملون مع ما هو كائن، لا مع ما ينبغي أن يكون؛ صار الأمر محسوما ومحتوما.. وبات علي من بيدهم الأمر اتخاذ ما يلزم من تدابير تمنع تماما إثارة غضب الجماهير من ناحية عقائدهم وثوابتهم الإيمانية.. وأصبحت هذه ضرورة قصوي وأولوية عامة تحتاج لحكمة وسرعة سن وتنفيذ القوانين لضبطها..