في المقال السابق كنت «أناقش العلاقة بين ما يزرع من أفكار وما يتولد عنها من سلوك وبالذات في مجال العنف.. وكيف أن الدراسات الأكثر حداثة ربطت ربطا مباشراً بين المحفزات الفكرية والعنف.. إذ ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن العنف ليس مجرد رد فعل بل إن الدعم الأساسي والسبب الرئيسي للعنف هو ما يفكر به صاحبه.. وقد ذكرت علي عجل أن الإعلام بما ينقله من أخبار يشكل جزءا من المحفزات الفكرية للعنف.. فكيف يحدث هذا التحفيز؟ كان الاعتقاد السائد هو أن تصدير مادة إعلامية مليئة بالعنف والقتل والدم هو أحد محفزات العنف لدي الصغار والمراهقين، بل البالغين أيضا.. وحاول الباحثون علي مدي عقود توثيق الصلة بين مشاهدة أفلام العنف، والسلوك العدواني العنيف.. ولكن الدراسات العلمية والنسب التي نتجت عنها لم تثبت أن مشاهدة العنف تولده لدي المشاهد، بل تترجمه فقط.. أي أن الشخص هو الذي يختار مشاهدة أفلام العنف ومتابعة مظاهر العنف لأن أفكاره تنطوي علي هذا العنف.. وبالتالي تصبح المشاهدة في هذه الحالة تأكيدا علي نفسية المشاهد من ناحية، وتجسيدا للعنف المكبوت داخله من ناحية أخري.. ولا شك أن توافر الرغبة لدي هذا النوع من المشاهدين يضمن تعلمهم الجيد واستيعابهم المتميز لكيفية تجسيد وتنفيذ العنف الذي بداخلهم علي أرض الواقع.. فيتعلمون طرقا مختلفة لإخراج هذا العنف في صور متعددة وباستخدام وسائل مساعدة مختلفة وأسلحة وخطط متنوعة.. وعندئذ تصير المادة الإعلامية أو الدرامية وسيلة مساعدة بالدرجة الأولي لترجمة وتجسيد العنف.. ولكن المواد الإعلامية التي تعتبر بحق محفزا حقيقيا من محفزات العنف ليست هو المواد الدرامية، بل الاخبارية والمعلوماتية والتعليمية.. فالذي ينتج العنف هو كيفية صياغة الأخبار بالطريقة التي تثير الجماهير وتولد فيهم الغضب الذي هو أول وأكبر محفزات العنف.. وتعتمد صياغة الأخبار والمعلومات حتي التاريخية علي الخلفية الثقافية للمتلقي.. وبالتالي يستطيع القائمون علي عملية صياغة وتصدير المعلومات التحكم في سبقها بالطريقة التي تهدئ الجماهير أو تغضبها علي حسب رغبتهم ويظل الخبر غير مغلوط في السياق القانوني.. ولتوضيح معني هذا تتعدد الأمثلة ومنها نقل أخبار الحروب والانتصارات والهزائم إلي الشعوب.. فقذ تذكر وكالات الإعلام المحلية أخبار ما حققه الجيش الوطني من انتصارات ولا تذكر ما لحقه من خسائر لتهدئة روع الشعوب.. وقد تصيغ مصطلحات جديدة تجمل بها خسائرها وتخفف منها أو تحول مسارها.. فقد قام الإعلام بصياغة مصطلح (النكسة) لتحل محل (الهزيمة) في يونيو 1967 .. وهكذا يمتص الإعلام الغضب أو يشعله.. للإعلام إذا دور محفز علي الغضب ولكن ليس بتجسيد العنف بل بإشغاله.. قد يقوم مسلسل مثل (يوسف الصديق) بتحفيز الغضب عند الجماهير أكثر من عشرة مسلسلات تقدم عنفاً وقتلاً ودماً.. وقد يكون لبعض برامج التوك شو دور في إثارة غضب المشاهدين أكثر من نشرات الأخبار وما بها من صور العنف والحروب.. فلينتبه الإعلام لأن للكلمة آثارا خطيرة علي العقول التي تحرك الأبدان..