ما يلفت زائر عمان هذه الأيام، بعد أربعين عاماً من تولي السلطان قابوس بن سعيد مقاليد الحكم وجود مؤسسات لدولة حديثة وشعب مهذب يحترم القانون ويقبل علي العمل في كل الوظائف من دون أي نوع من العقد. إذا كان من إنجاز يمكن وضعه في مستوي القدرة علي بناء دولة حديثة انطلاقاً من لا شيء تقريباً، فإن هذا الإنجاز يتمثل في أن قابوس استطاع ادخال فكرة العمل في عقول مواطني الدولة الذين صاروا موجودين في كل مكان بما في ذلك الفنادق، إنها قيم جديدة دخلت المجتمع وترسخت فيه بما يسمح للعمانيين، رجالاً ونساء، بمواجهة المستقبل بطريقة أفضل. ولعل الخطاب الذي ألقاه السلطان في صلالة قبل أيام في صلالة مفتتحاً به دور انعقاد «مجلس عمان» (مجلس الشوري المنتخب ومجلس الدولة المعين) يختصر تاريخ مرحلة من عمر الدولة القديمة ذات الحضارة العريقة فقد جاء في الخطاب المقتضب الذي تضمن الخطوط الأساسية للسياسة المتبعة منذ أربعين عاماً «إنه لمن موجبات الحمد والشكر لله العلي القدير، أن تمكنت عمان خلال المرحلة المنصرمة من إنجاز الكثير مما تطلعنا إليه. وكان كل ذلك ضمن توازن دقيق بين المحافظة علي الجيد من موروثنا الذي نعتز به ومقتضيات الحاضر التي تتطلب التلاؤم مع روح العصر والتجاوب مع حضارته وعلومه وتقنياته والاستفادة من مستجداته ومستحدثاته في شتي ميادين الحياة العامة والخاصة». لم يكن سهلاً بناء دولة حديثة في أربعين عاماً في منطقة عصفت بها التقلبات، خصوصاً أن هناك من كان يعتقد، مطلع السبعينيات، أن في الإمكان الاستفادة من ضعف الدولة المركزية وعدم قدرتها علي السيطرة علي كل أراضيها. كان لابد من اتمام تلك السيطرة كي يصبح في إمكان السلطان قابوس اتباع سياسة خاصة به علي الصعيد الخارجي تستند إلي عدم التدخل في شئون الآخرين ورفض تدخل الآخرين في شئون عُمان. كانت محافظة ظفار نقطة البداية في عملية بناء دولة مركزية قوية ذات سياسة واضحة، دولة قادرة علي اتباع سياسة خاصة بها قد لا تعجب كثيرين في بعض الأحيان، خصوصاً الطريقة التي تتعاطي بها السلطنة مع إيران، حتي أنها تبدو في مناسبات معينة وكأنها تغرد خارج السرب الخليجي.. سعي السلطان في خطابه الأخير إلي التشديد علي أهمية ما تحقق في محافظة ظفار التي كانت تعاني من تمرد واسع كاد يهدد وجود الدولة قبل القضاء عليه نهائياً في أواخر العام 1975 . ولهذا السبب قال قابوس: «إن للقائنا في مدينة صلالة، ونحن علي مشارف الاحتفال بعيد النهضة الأربعين، دلالة رمزية لا تنكر. فمن محافظة ظفار (عاصمتها صلالة) انطلقت النهضة العمانية الحديثة وفيها بدأت خطواتها الأولي لتحقيق الأمل. وها نحن نحتفي في ربوعها الطيبة بالذكري الأربعين لمسيرتها المباركة التي تحققت خلالها منجزات لا تخفي وفي مجالات كثيرة غيرت وجه الحياة في عُمان وجعلتها تتبوأ مكانة بارزة علي المستويين الاقليمي والدولي». وضع سلطان عُمان، انطلاقاً من ظفار، حجر الأساس لدولة عصرية تقوم علي فكرة «عُمان أولاًَ» كانت تلك الفكرة هي المحرك الأساسي الذي سمح بالقضاء علي التمرد الذي شهدته ظفار والذي كان مدعوماً مما كان يسمي «اليمن الديقراطية الشعبية» أي اليمن الجنوبي قبل الوحدة. لم تكن تلك الدولة في مطلع السبعينيات سوي جرم يدور في فلك الاتحاد السوفياتي. سمحت فكرة «عُمان أولاً» للسلطان بالاستعانة بكل القوي التي كانت مهتمة وقتذاك بابعاد المنطقة عن النفوذ السوفياتي بما في ذلك إيران - الشاه والمملكة الأردنية الهاشمية التي لعبت دوراً أساسياً في توفير الخبرات العسكرية اللازمة للقضاء علي التمرد في ظفار. تبدو سلطنة عُمان في السنة 2010 دولة متصالحة مع نفسها إلي حد كبير. هناك نهضة عمرانية في كل قرية ومدينة ولكن، هناك أيضاً خوفاً من أمرين. الأمر الأول دخول السلطنة في مرحلة الجمود والعجز عن تطوير تجربة السنوات الأربعين الماضية في عالم يتغير بسرعة، وربما كان ذلك ما دفع السلطان قابوس إلي القول إنه «تم إنجاز نسبة عالية من بناء الدولة العصرية»، بمعني أن هناك ما لا يزال في حاجة إلي إنجاز. أما الأمر الآخر، فهو مرتبط بالسياسة الخارجية والحرص علي العلاقة مع إيران مع التغاضي عن كل ممارساتها علي الصعيد الاقليمي. صحيح إنه لا يمكن إلا الترحيب بقول وزير الخارجية السيد يوسف علوي في ندوة صحافية أن اليمن «خط أحمر» وأن سلطنة عمان حريصة علي الوحدة اليمنية وعلي الوفاق في لبنان، إلا أن الصحيح أيضاً أنه لا يمكن تجاهل الدور الإيراني في اثارة المشاكل والغرائز المذهبية في اليمن ولبنان والعراق والبحرين وحتي في الكويت. كذلك ليس صحيحاً أن قوي خارجية، لم يسمها الوزير، تقف وحدها وراء المشكلة الكبيرة المطروحة حالياً علي مستوي المنطقة كلها والتي أسميها التوترات ذات الطابع المذهبي.. فمصادر التوتر معروفة جداً.. وربما كان هناك كلام صريح يفترض قوله إلي المسئولين في إيران في إطار الحرص علي متابعة الحوار معها، وهو حرص له ما يبرره في كل الظروف والأحوال! ليس سراً أن هناك تجربة ناجح اسمها تجربة سلطنة عُمان بعد أربعين عاماً من التطور المستمر علي كل المستويات بقيادة السطان قابوس، لا مفر من طرح أسئلة في شأن أنجح الطرق لمواجهة تحديات المستقبل التي قد لا تصلح معها الوسائل والسياسات والآليات التي استخدمت في الماضي. كاتب لبناني