في الصباح جالسا في كافيتريا بين صديقي الفنان التشكيلي وصديقي الطبيب وقد اجتمعنا كما يحدث أحيانا لنثرثر. كان الأول صامتا أغلب الوقت. زاهدا في الكلام .. مضطرا إليه عندما يدعي للحديث فيجيء صوته ضعيفا شاحبا إن صح التعبير. سألته في آخر الجلسة ونحن نقوم: مالك؟ زهقان من الدنيا؟ أومأ برأسه موافقا. طب وبعدين؟ رد وهو ينقل حزمة صحف من يد لأخري: بفكر أبطل قراية الجرايد. تركني فسألت نفسي علي الفور: هل لا بد أن أكتب؟! ثم تذكرت السؤال القديم .. الجديد: هل الكتابة قول أم فعل؟ قفزت إلي ذهني صورتنا ونحن أطفال نبني بيوتا وتلالا من الرمال علي حافة الشاطئ فتأتي موجة من البحر لتطمسها كأنها لم تكن . لكني سرعان ما قلت لنفسي وهكذا حياتنا كلها. نولد ونكبر ثم تداهمنا في لحظة أمواج الزمن فتدفننا حيث كنا نقف فنذوب في الأرض. هل القراءة قول أم فعل؟ الكلمة الصالحة تبقي. لكن الكلمة أيضا يمكن أن تشكل فعلا مدمرا. كان صديقي الطبيب قد سألنا خلال جلستنا: هل رأيتم الفيديو المنشور علي النت والذي أفتي فيه أحد المشايخ الدعاة بأن سرقة الآثار الفرعونية حلال؟ فإذا عثرت علي تمثال من الذهب سيحه وبيعه وإذا كان من الحجر حطمه. قلت سرقة لوحة أزهار الخشخاش إذن حلال لأنها آثار الكفرة في الغرب مثلما هي آثار الفراعنة. فكلاهما لا يمتان لنا بصلة نحن العرب. والمجد لآبار البترول في الأعالي أو في الخليج. وإذا ظهر سارق اللوحة فسوف يسجن. لكن القائل بأن سرقتها من الحلال البين لن يتهمه أحد. لكل داء دواء. فإذا تعذر علينا الحصول عليه فلكل دواء ..الدواء البديل فإذا ندر وجوده أو غلا ثمنه أيضا، تحتم علينا أن ننتجه بأيادينا خاصة وهو لا يكلفنا شيئا هذا الدواء هو الانتحار! وعمليا هو أسرع حل يخلصنا من كل مشاكلنا ويعطينا الراحة بعد الألم وهو يطهر أرواحنا من أجسادنا ومن عقولنا وهي بيت الداء الأعظم! الناس تنتحر يأسا وإحباطا. لا بسبب الفقر بل بسبب الطموح أو بمعني آخر .. الفشل في تحقيق الذات. فما الجدوي من الحياة لمجرد أن نأكل ونشرب ونتناسل مثلنا مثل أي حيوان أو حشرة دون أن نحقق ذاتنا ونشعر بأن لنا ضرورة وأهمية ما أو علي الأقل بصمة تختلف عن بصمة شقيقنا التوءم؟ لكن العلماء يؤكدون أن الانتحار كفر صريح. ومع ذلك لم تسد أمامنا كل منافذ الهروب بعد. فمن رحمة الله أن هناك الدواء البديل للانتحار. في نفس الجلسة من خلف النافذة رأيت رجلا بلحية سوداء كثيفة أكبر حجما من رأسه يسير في جلباب باكستاني وامرأة منتقبة في جلباب أسود من لحيته تسير خلفه علي بعد متر تقريبا- المساحة الشرعية؟ الله أعلم- ربما هي حليلته أو أخته أو غير ذلك. هاهو رجل قد حقق ذاته بأن هاجر ليعيش العصر الذهبي (كما يراه هو ) مشيته توحي بأنه من المبشرين بالجنة أو بعضوية مجلس الشعب عن الإخوان. توقف حيث ركن سيارته الفخمة لا الناقة. وركبها فتبعته المرأة أو المفترض أنها كذلك. تذكرت المشاهد التقليدية في أفلامنا حيث تري في مستشفي الأمراض العقلية من يمشي معلنا أنه نابليون بونابرت. بديل الانتحار هو الجنون. وهو يحل المشكلة بامتياز. يمكن بلحية ورداء أن تصبح أفضل من نابليون ويمكن أن تدعو غيرك للانتحار تحت مسمي الاستشهاد فتعيش عمرا مديدا سعيدا. الأنبياء كثر في التاريخ. لكن نواب الأنبياء ليس لهم عدد في كل دين. وإذا كان عندنا داعية أباح سرقة وهدم آثارنا. فعندهم في إسرائيل من أفتي بجواز أن تزني اليهودية مع أي رجل من أي دين إذا كان في هذا مصلحة الدين اليهودي لكن يفضل ألا تكون متزوجة!.قال المسيح أحبوا أعداءكم. لكن بعض الرهبان المسيحيين أحبوا أيضا الأطفال الصغار إلي درجة الفسق بهم. واعتذر بابا الفاتيكان نيابة عن هؤلاء النواب. في هذه الأمثلة الثلاثة ستجد زيا خاصا يميزهم عن الناس ودائما لحية طويلة ودائما غطاء رأس ودائما يعملون بالدعوة ويضمرون فتاوي أقبح ولكن في سرهم يبيحون بها أفعالا كثيرة لكن لهم وحدهم. إذا فشلت في أن تحقق ذاتك عليك بالجنون وذلك إما بالكذب علي نفسك وتوهم أن أحلام يقظتك قد صارت حقيقة وإما بالكذب علي الناس وادعاء أنك من نواب الرسل والأنبياء ولا تخشي شيئا فزيك ولحيتك كفيلة بأن تجعل الناس في رهبة منك. وربما تسلك طريقا آخر بأن تدعي أنك مناضل وثوري وزعيم سياسي تخطب في الناس أو تكتب مقالات بالصحف فتغير وجه تاريخ أمتك بل المنطقة التي تعيش فيها. لا يهم أن تحقق شيئا مما تقوله لكن لا شك سيعود عليك هذا بخير وفير. علي الأقل تطلع في كل الفضائيات خارج وطنك. أعود لآخر جلستي مع الصديقين. كان اتجاه صديقي الفنان هو نفس اتجاهي لكنه فضل أن يسير في اتجاه صديقنا الطبيب لأن به بائع صحف قد يجد عنده صحيفة روزاليوسف.. سرت وحدي فرشقتني الذاكرة ببيت شعر لصلاح عبد الصبور يقول (لقد أردنا أن نري أوسع من أحداقنا). كم فتنني هذا البيت وأنا شاب ورأيته يلخص وجود الإنسان علي هذه الأرض. لكني فجأة أسأل نفسي الآن: ماذا عسانا أن نفعل أمام هذه الحقيقة؟. هل نفقأ عيوننا؟! لو لم يكن صديقي قد مشي لقلت له إن في فقأ العينين حلا ممتازا للتخلص من إدمانه لقراءة الصحف. هذا و إلا عليه أن يختار بين الانتحار وبين الجنون.